
يا لقلبٍ أضناهُ الحزنُ، ويا لروحٍ غرقَتْ في يمِّ الدموعِ… في مَعمقِ الذاكرةِ التي تأبى النسيانَ، تتجددُ فاجعةٌ كُبرى، وتنزفُ جراحُ السادسِ من ديسمبرَ عام 1989، ذاكَ اليومُ الذي ابتلعَ ضوءَ فجرٍ جميلٍ، ولفَّ الوطنَ بعباءةٍ سوداءَ من الألمِ.
كانتْ هي، الشهيدةُ التاية أبو عاقلة، أولَ زهرةٍ تروي بدمِها الزكيِّ ترابَ هذا الوطنِ المفجوعِ، أولَ قنديلٍ ينطفئُ في ظلامِ فجرٍ أعلنَ فيه نظامُ الكيزانِ الساقطُ بدايةَ عهدٍ من القهرِ والجورِ. ما زالتْ أصداءُ صرخةِ الألمِ تترددُ في أرجاءِ الزمنِ، تروي قصةَ روحٍ غادرتْ باكراً، لتتركَ خلفها ندوباً لا تلتئمُ.
من قرية دونتاي، شَقَّتْ طريقَها إلى الخلودِ. يقول عنها د.معتصم دونتاي في صفحته: “أتذكرُها، وأنا طفلٌ صغيرٌ، كأنَّها الشمسُ التي لا تغيبُ عن الأفقِ. كانَ شكلُها محفوراً في روحي، وملامحُها ترسمُ معالمَ النشاطِ والحياةِ. لم تكنْ مجردَ امرأةٍ، بل كانتْ امرأةً شامخةً، قويةً كالسنديانِ، حيويةً كَنبْعٍ متدفقٍ، تَبُثُّ فيمن حولها روحَ الشجاعةِ والإقدامِ. أتذكرُ بوضوحٍ نشاطَها الكبيرَ في الأسبوعِ الثقافيِّ لرابطةِ طلابِ دونتاي بالجامعاتِ والمعاهدِ العليا، حيثُ كانتْ منارةً تُلهِمُ الكثيرَ من بناتِ قريتنا، وتزرعُ فيهنَّ بذورَ الوعيِ والإصرارِ على العطاءِ”.
ويتابع: لكنَّ الفاجعةَ التي عصفتْ بالجميع في ذاكَ اليومِ المشؤومِ، لنْ تبرحَ ذاكرتي أبداً. لحظةُ وصولِ خبرِ استشهادِها بطلقٍ ناريٍّ غادرٍ، كانتْ كالصاعقةِ التي هبطتْ على رؤوسِنا. خرجنا جميعاً، أطفالاً لم نُدركْ بعدُ خبايا السياسةِ ودهاليزَها، وكباراً غَمرَتْهُم صدمةُ الفقدِ، نبكي بحرقةٍ شديدةٍ، بدموعٍ امتزجتْ بالصراخِ والعويلِ. لم نكنْ نفهمُ لماذا؟ أو كيفَ؟ لكنَّنا فهمنا شيئاً واحداً من ذاكَ اليومِ: أنَّ قلوبنا قد أعلنتْ القطيعةَ الأبديةَ مع كلِّ من يُمثّلُ ذاكَ النظامَ الظالمَ. كانَ يومَ ولادةِ وعيٍ عميقٍ، وعلامةً فارقةً في تاريخِ آلامنا.
رحمَ اللهُ الشهيدةَ التاية أبو عاقلة، وأسكنها فسيحَ جناتهِ، نوراً وسلاماً، لروحٍ ضحَّتْ بكلِّ غالٍ ونفيسٍ من أجلِ غدٍ أجملَ. وإذ تتدفقُ الدموعُ لتُروي حكايتَها، لا يسعُنا إلا أنْ نتوجهَ بالشكرِ لعمنا زروق محمد، الذي لم تُخمدْ رياحُ الزمنِ شعلةَ ذاكرتِه، فأعادَ إلينا بكلماتِه صدى يومٍ لنْ يُنسى، ووجعاً يظلُّ نابضاً في أعماقِ الروحِ.
Leave a Reply