
بقلم: عمرو شعبان
في رحاب الأدب العربي المعاصر، تتصدر مشهد السرد نساءٌ لم يكتفين بصياغة الحكايات، بل انخرطن في معركة الوعي والهوية والقضية. بين أحرفهن، تنبض الأمة، لا بوصفها جغرافيا منهكة، بل كحلم مشتهى وجرح مفتوح. في عالمٍ تراجعت فيه الفكرة القومية إلى هوامش السياسة، ظلّت أحلام مستغانمي وغادة السمان تكتبان من صميم ذلك الحلم العربي الذي تقطّعت أنفاسه، تتنفسانه شعريًا وسرديًا، وتغزلان منه حكايات امرأة لا تنفصل عن الوطن، وحب لا ينفك عن الثورة، وذاكرة لا تتخلى عن الجرح.
عفوا.. هنا لا يدور الحديث عن كاتبتين فقط، بل عن حالتين أدبيتين تمردتا على القوالب، وخاضتا الكتابة كما يخوض المنفيّ حلم الوطن.
القضية الكبرى.. حين تصير الرواية خندقًا والمفردة طلقة
عند أحلام مستغانمي، الكتابة فعل ممانعة ناعم، وامتداد لصوت الثورة التي لا تموت. إذ لا تنخرط مستغانمي في التنظير السياسي، لكنها تجعل من رواياتها أوعية للذاكرة الجمعية والقومية، تُقطّر فيها الألم الوطني قطرة قطرة، حتى تتلوّن الحروف برائحة البارود والحنين.
في “ذاكرة الجسد”، لا يلتقي العاشقان فقط، بل تلتقي الجزائر مع نفسها، بمرآةٍ من جراح وأمل. الجسد المبتور لا يُشير فقط إلى الحرب، بل إلى وطن فقد أطرافه في صفقات النسيان.
وتبقى القضية الفلسطينية في كتاباتها، لا كعنوان متضامن، بل كـ جرح شخصي، وحق لا يسقط بالتقادم، تؤكده عبارتها: “الكتابة مقاومة حين تخون البنادق.”
أما غادة السمان، فهي تسرد من قلب العواصف العربية، لا من عتباتها… بيروت عندها ليست أسطورة، بل كابوسٌ يسكن المدينة والروح معًا. في “بيروت 75″، تحذّر من عاصفة تتشكل على هامش المجتمع، وفي “كوابيس بيروت”، تتحول الكاتبة إلى “كاميرا محطمة” توثق، في كل رمشة، ارتجافات وارتعادات المدينة وهي تسقط في أتون الجنون الأهلي. تنظر غادة إلى الحرب لا كقَدَر بل كمؤامرة على الحلم العربي، وتكتب المرأة وهي تنزف وطنًا.
الشكل والمضمون.. عندما يتبارى الشعر مع الوقائع العارية
أحلام مستغانمي شاعرة متخفية في هيئة روائية… لغتها مخملية، آسرة، تدغدغ المشاعر كما يفعل النسيم بموج البحر. تتدفق عباراتها كأنها ترتدي فساتين حرير عربي، مطرزة بالحزن والوله والانتماء.
لهذا، لا عجب أن تتحول اقتباساتها إلى “أناشيد حب” يتداولها العشاق على شرفات الفيسبوك وتغريدات الحنين.
بالمقابل غادة السمان، تكتب كمن يفتح نافذة على عاصفة، فهي لا تسعى لزخرفة الألم، بل لفضحه. كلماتها قصيرة، كطلقات رصاص، صادقة حد القسوة، فصيحة في هجائها للمجتمع والسلطة والتابوهات. لا تتودد للقارئ، بل تجرّه إلى مرآةٍ لا ترحم. ومع ذلك، أو ربما لهذا السبب، تقرأها النخب المثقفة كما تُقرأ المناشير السرية.
المرأة في النص… بين شهقتي العاطفة والرفض
تكتب مستغانمي المرأة كما تُكتب الأغاني الحزينة، بكاء نبيل داخل إطارٍ من الجمال. هي لا ترفع رايات النضال النسوي الصريح، لكنها تمنح بطلاتها قوة داخلية صامتة، تجعل المرأة أقرب إلى أسطورة حب لا تُكسر.
في نصوصها، تتحول المرأة إلى سؤال دائم عن الحرية، تُسجّل مشاعرها كما يُسجل الرُسل الوحي بشغف ووقار. وفي خلفية ذلك، تتسلل الأسئلة القومية، كأنَّ الوطن أيضًا أنثى تُقهر وتُحَب وتُستردّ.
أما غادة السمان، فتتحدث عن المرأة بقبضات مفتوحة… تصرخ باسمها، تكشف كيف يُغتصب جسدها في وضح القانون، وكيف يُحاصر عقلها بسياج الأعراف. في رواياتها، المرأة ليست فقط ضحية، بل مقاومة، وفريسة تصير لاحقًا مفترسة.
هي تكتبها بلا رتوش، بلا عذر أو طلب غفران. إنها الكتابة بوصفها مطرقة نسوية، تطرق على خشبة المسرح العربي المتداعي لتقول إن القضية لا تُفهم دون جسد امرأة ينزف من الداخل والخارج معًا.
حين يتحوّل الأدب إلى مرآة مشروخة لواقع أكثر تشظياً
أحلام مستغانمي وغادة السمان، ليستا كاتبتين فحسب، بل عاصفتان أدبيتان عربيتان، كلٌ منهما تهبّ من جهة مختلفة من جغرافيا الحرف العربي. الأولى تُحاكي النخيل وهو يُكابر في وجه العاصفة، والثانية تسجل سقوط الوردة وتبتسم في جنازتها.
وما بين شعرية الذاكرة وواقعية الجراح، بين التواطؤ العاطفي والصدمة النصية، يتجلّى الأدب النسوي العربي كأكثر مرايا الواقع صدقًا ومراوغةً.
لا تتحدثان عن “المرأة” فقط، بل عن العروبة حين تمر عبر جسدها، وعيناها، وحنينها.
لأن الكلمة التي تكتبها امرأة تعرف معنى القيود، لا يمكن إلا أن تُحرّر.
Leave a Reply