من نيران طهران إلى ركام الفاشر: تصعيد إسرائيل وإيران يعيد تشكيل خرائط النفوذ في السودان والمنطقة

في لحظة حرجة من اشتعال الجبهات الإقليمية، أطلّ التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران ليكشف عن تحولات عميقة في موازين القوة، لم تقتصر على طهران وتل أبيب، بل امتدت شظاياها إلى العمق السوداني المضطرب. فقد أدان السودان، عبر بيان رسمي صادر عن وزارة الخارجية، ما وصفه بـ”العدوان الجائر” الذي شنّته إسرائيل على أهداف داخل إيران، مؤكداً أن هذه الهجمات “تهدد السلم والأمن الدوليين”، وداعياً مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى التدخل الفوري لمنع انزلاق المنطقة إلى حرب مفتوحة.

لكن خلف هذه الإدانة، التي بدت للوهلة الأولى دبلوماسية تقليدية، تتحرك جملة من الرسائل السياسية والعسكرية العميقة، تربط بين ساحة الحرب في الشرق الأوسط وواقع الصراع المحتدم في السودان.

الضربة الإسرائيلية والرد الإيراني: تصعيد بلا سقف وارتدادات إقليمية

فجر الجمعة، نفّذت إسرائيل عملية عسكرية واسعة النطاق ضد مواقع إيرانية استراتيجية تحت اسم “الأسد الصاعد”. هذه الضربات، التي استهدفت منشآت نووية ومراكز أبحاث ومنشآت عسكرية في طهران، نطنز، تبريز، وشيراز، أدت إلى سقوط 78 قتيلاً و329 مصاباً، بينهم علماء نوويون وضباط كبار، وفقاً لتقارير إعلامية إيرانية، مما يشير إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة.

في المقابل، لم تتأخر طهران كثيراً في الرد. فمساء الجمعة، أطلق الحرس الثوري الإيراني رشقة صاروخية واسعة النطاق استهدفت عمق الأراضي الإسرائيلية، وتحديداً قواعد عسكرية في النقب و”رامات دافيد” و”تل نوف”، إضافة إلى محيط تل أبيب. وقد استخدمت إيران في هجومها صواريخ فاتح-110 الباليستية متوسطة المدى وطائرات مسيّرة من طراز شاهد-136 الانتحارية. أكدت مصادر إيرانية عن إصابات مباشرة في منشآت عسكرية إسرائيلية، الأمر الذي أقر به الجيش الإسرائيلي جزئياً، مشيراً إلى “أضرار مادية محدودة” في قواعده الجوية.

الرد الإيراني جاء متزامناً مع إعلان المرشد الأعلى علي خامنئي أن “الاعتداء الإسرائيلي لن يمر دون عقاب”، مؤكدًا أن “يد إيران طويلة، وصبرها ليس ضعفاً”.

وشددت الخارجية الإيرانية على أن الرد جاء “في إطار الدفاع الشرعي”، وأن طهران “لن تتوانى عن مواجهة أي تهديد”. هذا التصعيد المتبادل دفع بالعديد من القوى الإقليمية والدولية إلى إصدار بيانات تدعو للتهدئة وضبط النفس. فقد دعت دول كبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى خفض فوري للتصعيد، محذرة من تداعيات كارثية على الاستقرار العالمي. في المقابل، لوّحت بعض القوى الإقليمية والجهات الدولية الفاعلة بخيارات تدخل أوسع إذا ما استمرت دائرة العنف، مما ينذر بتوسع رقعة الصراع.

السودان وإيران: بين الشراكة العسكرية والتموضع الإقليمي المتغير

في سياق هذا التصعيد المتفاقم، كان لافتاً أن تصدر وزارة الخارجية السودانية بياناً قوياً يدين الضربة الإسرائيلية، ويصفها بـ”العدوان الجائر”. يُعد هذا الموقف تطوّراً نوعياً في السياسة الخارجية السودانية، ويشير إلى تقارب استراتيجي متسارع مع إيران، بدأ فعلياً منذ استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الخرطوم وطهران في أكتوبر 2023. هذا الاستئناف جاء بعد سنوات من القطيعة التي كانت قد بدأت في عام 2014 بإغلاق المراكز الثقافية الإيرانية وتفاقمت بقطع العلاقات الدبلوماسية عام 2016 تضامناً مع الرياض.

هذا التموضع السوداني لا يمكن فصله عن الحرب الداخلية الدائرة في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والتي دخلت عامها الثاني وأسفرت عن مقتل أكثر من 15,000 شخص ونزوح داخلي لأكثر من 8 ملايين مواطن. وتشير تقارير استخباراتية وتحليلية متقاطعة إلى أن الجيش السوداني حصل مؤخراً على دعم تقني وعسكري إيراني في مجالات الطائرات المسيّرة، مثل شاهد-136 أو نماذج مشابهة، بالإضافة إلى أجهزة اتصالات ومراقبة متطورة. هذا الدعم أسهم بشكل ملحوظ في تعزيز قدرات القوات المسلحة العملياتية، خاصة في ضرب أهداف متحركة وثابتة، مما منحها ميزة نسبية في مواجهة قوات الدعم السريع في جبهات القتال، أبرزها في الخرطوم ودارفور وشمال كردفان.

التقارب السوداني الإيراني يعكس تحولاً جذرياً في موازين التموضع الإقليمي للخرطوم، التي ظلت لعقد من الزمن أقرب إلى محور الرياض – أبوظبي – القاهرة.

هذا التحول يدفع السودان تدريجياً نحو محور مقاومةٍ غير معلن، تعيد فيه طهران تعزيز وجودها في منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى للممرات الملاحية والتجارية العالمية.

تأثيرات الموقف على الداخل السوداني

يترك الموقف السوداني الأخير تداعيات عميقة على المشهد الداخلي، مؤثراً على توازنات الحرب والسلام:

  • تعزيز موقف الجيش دبلوماسياً وعسكرياً: إعلان الخرطوم إدانتها للضربة الإسرائيلية يُفهم إقليمياً كـ”إشارة ولاء” لمحور طهران، ما قد يمهّد لمزيد من الدعم العسكري الإيراني. هذا الدعم، خاصة في مجال التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، سيؤثر بلا شك على توازنات الحرب الميدانية، ويمنح القوات المسلحة ميزة نسبية مؤقتة في جبهات القتال، خاصة في دارفور وشمال كردفان، حيث اشتدت المعارك مؤخراً، وظهرت فيها بصمات الطائرات المسيّرة بوضوح.

  • إرباك حسابات الأطراف ضد الجيش: هذا التموضع الإقليمي قد يستخدمه الجيش كورقة ضغط سياسية قوية. فهو يرسل رسالة واضحة بأن القوات المسلحة تحظى بدعم عسكري خارجي نوعي، ما يربك التقديرات الداخلية لدى الأطراف الأخرى، ويدفع بعضها إلى مراجعة رهاناتها على دعم دولي أو إقليمي موازٍ، أو حتى إعادة النظر في استراتيجياتها التفاوضية.

  • إعادة اصطفاف التحالفات الإقليمية: موقف السودان قد يفتح الباب أمام فتور في العلاقات مع بعض القوى الخليجية والعربية، مثل الإمارات والسعودية، التي تنظر بعين الريبة لأي اقتراب سوداني من إيران. هذا التغير في التحالفات قد يدفع هذه الأطراف نحو مراجعة دعمها الإنساني أو الاقتصادي أو حتى السياسي لأحد طرفي النزاع، مما يزيد من تعقيد شبكة التحالفات الإيجايبية والسلبية.

  • خطر التحول لساحة صراع بالوكالة: إذا تطور التصعيد الإيراني الإسرائيلي إلى حرب مفتوحة أو تصعيد دائم، فإن السودان – بتموضعه الجديد وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر – قد يتحول إلى نقطة احتكاك جيوسياسي خطيرة. هذا يعني أن البلاد قد تصبح ساحة للضربات غير المباشرة أو العمليات السرية بين القوى المتنافسة، لا سيما مع وجود موانئ استراتيجية وطرق عبور مهمة. وقد تتزايد التحذيرات من أطراف إقليمية ودولية من عواقب هذا التحول.

  • تعقيد فرص الحل السياسي: أي دعم خارجي مباشر لطرف على حساب آخر يعقّد مناخ التفاوض بشكل كبير، ويقلّص فرص التوصل إلى حل سياسي مستدام. إذ أن الطرف الذي يشعر بتفوق استراتيجي ميداني لن يكون مستعداً لتقديم تنازلات جوهرية، مما يُبقي باب الحرب مفتوحاً ويزيد من معاناة الشعب السوداني.

 السودان في عين عاصفتين

لم تعد الحرب في السودان شأناً محلياً معزولاً، ولا معركته بمعزل عن المحاور الإقليمية والدولية. فمع كل صاروخ يُطلق في الشرق الأوسط، وكل طائرة مسيرة تحوم في سماء أم درمان أو الفاشر، يتّضح أن المعركة على السودان باتت جزءاً لا يتجزأ من صراع نفوذ أوسع، تتقاطع فيه أجندات الأمن القومي والهيمنة والممرات الدولية الحيوية.

ومع تموضع الخرطوم في محور جديد، يصبح السؤال ليس فقط: من ينتصر في دارفور أو الخرطوم، أو من سيشكل الحكومة القادمة؟ بل السؤال الأكثر إلحاحاً: إلى أي مدى سيبقى السودان قادراً على الحفاظ على سيادته واستقلال قراره وسط زلازل الشرق الأوسط المتتالية وتأثيراتها العميقة على المشهد الداخلي؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.