كانت هدى صالح مهدي عماش واحدة من أبرز النماذج النسائية في تاريخ العراق الحديث، ليس فقط لكونها عالمة في مجال الميكروبيولوجيا والبحث العلمي، بل لأنها تقدمت في مجالاتٍ كانت تُعد حكراً على الرجال في زمنها. نشأت في بيئة علمية وفكرية، وواصلت دراستها حتى حصلت على الدكتوراه في الولايات المتحدة، قبل أن تعود للعراق وتَشغل مواقع أكاديمية متقدمة، وتُدرِّس وتُشرف وتُسهم في تطوير برامج علمية مرتبطة بالصحة والبيئة والبحث المخبري.
مثَّلت هدى عماش نموذجاً لما أراد العراق الرسمي تقديمه من صورة عن المرأة: مثقفة، مؤهلة، مشاركة في صناعة القرار، وقادرة على تمثيل بلدها في المحافل العالمية بمكانة علمية مرموقة. ومع تعيينها لاحقاً في مواقع قيادية داخل الدولة وحزب البعث، تقدمت الصفوف كوجه حديث وفاعل للمرأة العراقية، في مرحلة كان النظام الوطني يقدم خطاباً تقدمياً يقوم على تزاوج العلم والسياسة ومشروع الدولة القوية.
لم يقتصر دورها على الجانب النظري أو الأكاديمي، فقد شاركت في ملفات علمية ذات حساسية عالية، أبرزها الدراسات المتعلقة بالبيئة والآثار الصحية للح.رب والعقوبات الاقتصادية، خاصة ارتفاع نسب السرطان والتشوهات الخلقية نتيجة اليورانيوم المنضب الذي استخدمته أمريكا ضد الشعب العراقي. كانت تُقدم هذه الملفات بوصفها قضية وطنية لا مجرد بحث علمي، وهو ما منح حضورها العام بعداً يتجاوز المختبر.
كانت وما تزال هدى عماش تساهم مع أبناء شعبها وتناضل من أجل حاضر أفضل.
بعد احتلال العراق عام 2003 واعتقالها من قبل القوات الأمريكية، تحولت صورتها إلى رمز من رموز الصمود، خاصة بعد أن وُضعت ضمن قائمة الـ55 المطلوبين من قيادات ورموز النظام الوطني، وكانت المرأة الوحيدة فيها. ورغم الضغوط والاتهامات الإعلامية الثقيلة، وحملات التعذيب، ومحاولات كسر إرادتها لم تُسجَّل عنها تصريحات اعتراف أو تراجع عن مواقفها أو مؤسسات الدولة التي كانت جزءاً منها. ظلت متمسكة بصمتٍ يوصف بأنه موقف قوة، وتحوّل هذا الصمت في الوعي العراقي والعربي إلى حالة مقاومة رمزية، لا بوصفها سيدة في موقع قيادي في الحزب والدولة فقط، بل أيضاً بوصفها باحثة وعالمة لم يستطع الاحتلال إثبات الاتهامات العلمية المسندة إليها. فقد ظلت محتفظة بكل أسرار الدولة برغم ما لاقته من الجلاد في سجون الاحتلال الغاشم.
وعندما أُفرج عنها لاحقاً “بعد أعوام” دون توجيه تهمة تثبت علاقتها بأسلحة بيولوجية أو برامج محرمة، أو تهمة فساد، أو استغلال منصب، شعر كثيرون بأن الاتهامات كانت جزءاً من حرب نفسية وإعلامية تهدف إلى ضرب الرموز، خصوصاً النساء اللواتي حملن صورة عراق قوي ومتعلم قبل الح.رب.
اليوم تبقى هدى عماش، إحدى الشخصيات التي لا يمكن تجاهلها في تاريخ المرأة العربية في المجال العلمي والسياسي، رمزاً لامرأة وصلت إلى قمة التسلسل الأكاديمي والسياسي، وعبرت محنة الاعتقال والح.رب وهي متمسكة بهوية الباحثة والسياسية القائدة، وبإرث بلدٍ كان يريد أن يظهر للعالم بطموح علمي لا يقل عن طموحه السياسي.
#هدى_عماش #العراق #صمود_عراقي #عالمات_عرب #اليورانيوم_المنضب #ملف_المرأة_والمجتمع #نساء_عراقيات #الصمود_في_سجون_الاحتلال

Leave a Reply