من “الجسد” إلى “الثورة”

صحيفة الهدف

توتا صلاح مبارك

بدأ وَلَعي بشعر “نزار قباني” منذ النظرة الأولى….. حين التقت عيناي بقصيدة “غرناطة”، فكان تماماً كعشق الصبا؛ لم يتولد من تدرّجٍ منطقي يبدأ بلقاء غير مرتّب، فإعجاب، ثم حب!!!!
بل كان عاصفةً امتزجت فيها قوة الشعر بألق التاريخ وسطوته الباذخة مع خيبات الراهن الموجع:

في مدخل (الحمراء) كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ
عينان سوداوان في حجريهما
تتوالد الأبعاد من أبعادِ
هل أنتِ إسبانية؟ ساءلتها
قالت: وفي غرناطة ميلادي
غرناطة؟
وصحَت قرونٌ سبعة
في تينك العينين… بعد رقادِ
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدةٍ سمراء من أحفادي
وجهٌ دمشقي رأيت خلاله
منزلنا القديم وحجرةً
كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة رصعت بنجومها
والبركة الذهبية الإنشادِ
و… دمشق، أين تكون؟
قلت: ترينها
في شعرك المنساب… نهر سوادِ
في وجهك الذي ما زال
مختزنًا شموس بلادي
ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي
وورائي التاريخ كوم رمادِ
الزخرفات… أكاد أسمع نبضها
والزركشات على السقوف تنادي
قالت: هنا الحمراء زهو جدودنا
فاقرأ على جدرانها أمجادي
أمجادها؟ ومسحتُ جرحًا نازفاً
ومسحتُ جرحًا ثانيًا بفؤادي
يا ليت وارثتي الجميلة أدركت
أن الذين عنتهم أجدادي
عانقتُ فيها عندما ودعتها
رجلًا يسمى (طارق بن زيادِ)

“طارق بن زياد” القائد ذو الأصول الأمازيغية الذي قاد حملة دخول المسلمين إلى الأندلس عام 722م، وهي الحملة التي شكّلت نقطة البدء في بناء واحدة من أعظم الحواضر في التاريخ، والتي رفدت العالم بكثير من العلماء والفلاسفة، واستمرت لعدة قرون قبل أن تنهار عام 1493م.

لا تزال تلك القصيدة تتنزل عندي ثقلًا وجدانيًا لم يُطفئ بريقه ما نبّهتني إليه آراء بعض الباحثين الجدد أن كثيرًا مما أُسبغ على سردية “حرق” القائد “طارق بن زياد” للسفن حتى يقطع سبيل العودة، مع قولته الشهيرة: “البحر وراءكم والعدو أمامكم”… قد يكون محض خيال “عاشقين” للتاريخ؛ فالبطولات وتخييلها وتضخيمها وزخرفتها قد تشبع أشواقًا مهزومة في أزمنة التعثر والخيبات!!!!

وكما في كل حالات العشق، قد تُباغِتُ العاشقَ لحظةُ إحباطٍ أو سانحةُ خيبة.

وذلك ما أحسسته عند قراءتي لمقطع من إحدى قصائد “نزار”:
“فَصَّلْتُ من جلدِ النساءِ عباءةً
وبنيتُ أهراماً من الحَلَماتِ”!!!!!
هالني أن تلك الأبيات ذهبت بعيداً في نفق الاضطهاد والاستعباد المعنوي للمرأة، بجعلها أداةً وموضوعاً جسدياً لتفريغ شحنات إحباط ذكوري،
وأشواق سقيمة…
وفعل استعلاء نوعي ذكوري مقيت!!!
بدأت القراءة الجادة عن نزار قباني، فأدركت أن تلك كانت مرحلة
“الطفولة” الشعرية لنزار، الشاعر الذي نصب نفسه—أو نصّبه شعره—”شاعر المرأة”،
ويتجلّى هذا المنحى، أي المرأة–الجسد، بسطوعٍ بائن في ديوانه الأول “قالت لي السمراء”.

حدّثونا في سيرة “نزار قباني” أنه تعرّض في مطلع حياته لحادث بالغ المأساوية والحزن، حادثٍ لا محالة ينحت آثاره في غياهب النفس

ينقش في الوجدان ظلاله العميقة، وذلك حين فقد شقيقته التي قررت مصادرة حياتها بنفسها عندما أُجبرت على الزواج ممن لا تحبه، فانتحرت.
ولعل ذلك قد أسهم في تشكيل الفضاء النفسي لنزار قباني الذي انحاز إلى المرأة وجعل منها “موضوعه” الأهم بأنساقٍ تطورت في مراحل مسيرته الشعرية التي وُصف في إحداها بشاعر “المرأة والحب والثورة”… الثورة على الواقع الذي يكرس ظلم المرأة،
واستعبادها،
وتكبيلها بقيود التكلس والجمود.
فالمرأة لا ريب تعرّضت لاستلابٍ مضاعف،
واضطهادٍ مركب؛
فقد كانت عرضة للظلم
والقهر
والتركيع، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً كإنسان—كما عانى الرجل بعيداً عن التصنيف الجندري—
ثم تعرضت كامرأة للتمييز
والقهر
ومصادرة الحقوق.

أتت المرحلة الأكثر نضجاً عندما بدأ “نزار” تثوير المرأة وتحفيزها على الوقوف في وجه المجتمع الذي يصادر حقوقها ويجعلها خانعة، خاضعة بخيار غير واعٍ من المرأة نفسها أحياناً،
أو قسراً من مجتمع جاهل يتعامل بعقلية: “صوت المرأة عورة”،
و”النساء حبائل الشيطان”.
حينها ظهرت قصائد لنزار تتحدث فيها المرأة بصوتها، ثائرةً على واقع القهر
والاستلاب… وبدأنا نسمع مثل:

تلك مرحلة يصفها مناصرو “النسوية” بأنها رفدت حق المرأة في التعبير بحرية عن دواخلها،
والاحتجاج العلني على السيطرة الذكورية،
والاستعلاء النوعي.
أسوق قصيدة أخرى تصب في هذا المنحى:

ثم تأتي مرحلة التحريض العلني والدعوة إلى الثورة على الاستعباد:
ثوري! أحبك أن تثوري
ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور
ثوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبير
لا ترهبي أحداً،
فإن الشمس مقبرة النسور

وكان لي أن أذكر قبل ذلك أن نزار تناول في شعره حالة الازدواجية القيمية التي يتكئ عليها مجتمعنا عندما يلجأ إلى الموروثات التي لا تستند إلى تشريعات الدين فيحلل للرجل ما هو ممنوع ومحرم،
ثم يجعل الدين مرجعية صارمة حين يتعلق الأمر بالمرأة:

بعد ذلك تأتي مرحلة التبشير بـ
“المرأة الحقيقية” التي لا تستند إلى المساحيق
ووسائل التجميل أداةً للقبول والحب عند الرجل،
المرأة التي لا تتوانى عن أن تكون مناضلة لحقوقها،
حرةً في آرائها،
ومستقلةً بأحاسيسها ومشاعرها،

ولا يخفي أيضاً حلمه بالمرأة البسيطة،
المرأة التي تتخذ العقل والذكاء فضاءً لجمالها، لتحوز القبول والحب… يقول:
أحبني كما أنا
بلا مساحيق… ولا طلاء
أحبني… بسيطة عفوية
كما تحب الزهر في الحقول…
والنجوم
في السماء

هكذا تحوّل نزار قباني من شاعر
المرأة–الجسد…
إلى شاعرٍ محرضٍ للمرأة–الإنسان.
وحقّ لنا أن نحتفي به شاعرًا للمرأة التي تعتز بوجودها كامرأة… وكإنسان!!!

#من_الجسد_إلى_الثورة #ملف_المرأة_والمجتمع

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.