ملهمات من بلادي: دود الوعر.. مقنع الكاشفات

صحيفة الهدف

 د. منال جنبلان

جُبِلَ الرجل السوداني على فطرة الشهامة والزود عن عرضه، فهو كالأسد الجريح يثور عندما يتعلق الأمر بكرامة المرأة؛ فدونها الموت. وتوارثت الأجيال جيلاً بعد جيل الفراسة والشجاعة التي حمدها العدو قبل الصديق، وتغنّى بها الشعراء والشاعرات بقصائد سارت بها الأجيال مدحاً وما زالت تُتلى وتُذكر.

خادم الله (زينب) بت بابكر، امرأة سودانية من جزيرة ساردية بشندي، امرأة أمية لم تكتب ولم تتلقّ تعليماً، لكن قلبها فُطِر على رفض الظلم، وشجاعة المرأة التي تقف خلف الرجل الأبي. حدّثها عقلها أنَّه لا يُعقل أن يستعمر إنسانٌ إنساناً؛ فالفطرة السوية جُبلت على الحرية وليس سواها. فكانت خادم الله خلف واحدة من أعظم الملاحم الوطنية السودانية حين هبّت لتخليد اسم ابن أخيها الشيخ ساردية.

كان الاستعمار الإنجليزي يخنق ببطشه بلاد النيلين، وفرض بجبروته وطغيانه ضرائب على السودانيين رجالاً ونساءً، عُرفت بالطلبة أو “الدقنية”، وكانت قيمتها سبعة قروش، أو الجلد بالسوط عند عدم الإيفاء بها. وكان الإنجليز يجمعون كل من لم يدفعها في الساحة للجلد أمام الجميع… ولم تكن النساء استثناء؛ إذ كُنَّ يُجلدن عشر جلدات بالسوط!

في مديرية بربر تحت مشيخة الشيخ إدريس سليمان فصل الله، شيخ جزيرة ساردية بشندي، فُرضت الدقنية. وساردية جزيرة تقع في نهر النيل بالسودان، وتجاورها من الضفة الشرقية منطقة الشقالوة. وتقع هذه المنطقة شمال مدينة شندي بنحو ثلاثة كيلومترات ضمن ولاية نهر النيل.

رفض الشيخ إدريس أن تُطبَّق عقوبة الجلد على أي امرأة تحت شياخته، وأقسم ألّا يحدث ذلك مهما كلّفه الأمر. استفز هذا الرفضُ الإنجليز، فاستدعوا الشيخ إدريس إلى المديرية ببربر، وظن المستعمر أنه سيخيّره بين أمرين: إمّا تنفيذ العقوبة على النساء، أو أن يُجلد بدلاً عنهن مئة جلدة. فاختار الفارس السوداني الجلد، وتوكأ على عصاه لا يتزحزح ولا يرمش له جفن، حتى أكمل المئة جلدة، مما أثار حفيظة وإعجاب مأمور المركز في آن واحد، ودفعته الحادثة لإعفاء كل نساء الجزيرة من عقوبة الجلد.

لم تمر الحادثة على نساء ساردية اللائي فداهنّ إدريس سليمان فصل الله، وعلا بكرامتهن فوق أي امتهان؛ فاستقبلنه استقبالاً يليق بأسد يزود عن عرينه. فنظمت فيه عمته خادم الله بت بابكر قصيدة خلدت موقفه البطولي ضد المستعمر الذي حاول إهانة نساء بلاده. وسار مدحها إلى يومنا هذا، حتى صار نغماً محبباً تغنى به عملاق الفن السوداني عبد الكريم الكابلي:

يا مقنع الكاشفات
غنّيت بجيب نمات
لي دود الكواني الضارب الليات
آب أمّنة حوبتك جات
يا مقنع الكاشفات

كباس درايز أم حبر
يا دابي الجبال
قلبك صميم من حجر
يا دود الوعر

زينب تجر النم
فوق تور العواصات البكرف الدم
في محكر دواس حاشاهو ما بنزم
ساطور الرجال جرعة عقود السم

خادم الله بت بابكر وأخريات يشبهنها في الأصالة والعراقة، رفضن إهانة المرأة، ورسمن طريقًا مخلدًا تسير فيه نساء بلادي دون سياط مستعمر أو سياط نظام عام.

#ملهمات_من_بلادي
#المرأة_السودانية
#تاريخ_السودان
#مقنع_الكاشفات
#دود_الوعر
#ساردية
#نضال_النساء
#ملف_المرأة_والمجتمع
#السودان
#كرامة_المرأة

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.