تمساحٌ واحد؟ ….. أم اثنان

صحيفة الهدف

توتا صلاح مبارك

(سنكون يوماً ما نريد
لا الرحلة ابتدأت
ولا الدرب انتهى)
محمود درويش

قِيل إن الإنسان ابنُ زمانه ومكانه!!!!
هنالك بعض الأمكنة تتفرّد بعطائها الذي ينسرب ثرّاً،
دفاقاً،
متجاوزاً دائرة أبنائها وبناتها وساكنيها،
ليتناثر درراً وحباتِ ضوءٍ في كل تراب الوطن: ثقافة
وفنّاً،
غناءً
وشعراً……
وهكذا كانت أم درمان…..
لذا فَعِشْقُها أصاب حتى غير ساكنيها، فتمكن منهم ولها،
وتعلّقاً،
وتغنّياً!!!!!

وبما أن الإنسان ابن زمانه فلا ريب أن أحداثاً وحكايا ما يعاصره تترك بصماتٍ ونتوءاتٍ لا تخفى على نمط تفكيره ومنحى توجّهاته ورؤاه.
ووشحت طفولتي—كما طفولة الكثيرين—”المدائح”، وكان علينا أن نسمعها!!!!
لم نكن نملك خياراً إلا أن نفعل، إذ كانت تُبث في الإذاعة،
وتأتينا عبر ذلك الراديو الضخم الذي يتوّهط قلب البيت ويتوسطه، ناشراً شتى ضروب الثقافة المسموعة!!!!
لم أكن أركز كثيراً في مفردات المديح ومعانيها!!!!!
ولم تكن تستهويني ألحانها وترانيمها، إلا أن إحداها كانت تفجّر في دواخلي مشاعر متباينة من خوفٍ،
ورهبة،
تتمازج مع إحساس وجداني عميق، لتشكل لوحةً يهزم الدعاءُ والتوسّلُ فيها المصائبَ والجوائح!!!!
كانت تلك مدحة التمساح التي تقول كلماتها:

يارحمن ارحم بي جودك
خلي الغوث ينزل في بلودك **
يارحمان ارحم بي برّك
يا الحافظ في بحرك وبرّك **
في وليانك أطلق سِرّك
آمين آمين يا كاشف الغُمّه
جنب هالدابي، صبحو رِمّه **
شي لله يا ذات التجلي **
وصاحب السر والفتح الكلّي ***
يا الغوث البي الكون متولي ***
التصريف في إيدك عجِّلي

يقول الرواة إن الشيخ حاج الماحي (1789–1871)، الذي عاش قرب مدينة مروي، قد جادت قريحته بهذه المدحة حين ظهر تمساح في المنطقة في شمال السودان، أخاف الناس وأرهبهم وغضّ مضاجعهم!!!!
فأتوا الشيخ حاج الماحي شاكين باكين!!!
فدعا لهم وسطر كلماتٍ تقطر دعاءً ورجاءً!!!
وتمشي الرواية أبعد لتحدثنا أنه في صباح اليوم الثاني وُجد التمساح ميتاً وبه تسعٌ وتسعون طعنة!!!

…… ونحن نعيش ونعايش ما يحدث في الوطن من قتل،
وهدم للبيوت،
وسطوٍ على الممتلكات،
ثم تهجيرٍ ونزوحٍ لم يكن فيه الاختيار سيداً للموقف…
ليسكننا الرعب والخوف تماماً كما حدث لمن عايشوا جائحة التمساح في ذلك الزمان الغابر!!!!!!!

دعونا وتوسلنا كما فعلوا!!!
ورددنا ما رددوا:
“يا رحمن ارحم بي برّك
يا حافظ في بحرك وبرّك”

بل قد دعونا أكثر!!!!!
فـ”تمساحنا” ليس واحداً!!!
فهو عسكر بشقيه وفلول… وبرهان!!!!

ثم تواصل المدحة:
“هِم يا شيخ
الناس حيرانك
في التمساح بيّن (برهانك!!!!!)”
أمصادفة هذه؟؟؟؟
ولربما صدفةٌ تخالف ألف ميعاد!!!
ففي زماننا السوداني الآني المعتل المسقم “البرهان” لم يَبِن ويستبِن في “التمساح/العدو”،
وإنما بان فعله واستبان في الوطن/السودان.

وكأنما تنطق المدحة بلسان حالنا لتقول:
“التمساح سكن البرية
خَلِّي البروح نسياً منسياً!!!!”
فلم يخالف ذلك واقعنا المحزون،
فبيوتنا هي “نسياً منسياً” عند من تولّوا أمرنا وتحكموا بشأننا!!!

نحن لم نكتفِ بالدعاء فقط كما فعلوا،
بل نادينا بإيقاف الحرب!!!!!

تمساحهم وجدوه مقتولاً وبه ٩٩ طعنة—تماماً كعدد “قطع أرض” علي كرتي!!!!!
لا نأمل في معجزة كتلك…. ولكن نحلم أن نجلس سوياً لنوقف صوت البندقية….
ونحيا، ثم نحيا!!!!

12/08/2023

#ملف_المرأة_والمجتمع

#تمساح_الوطن

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.