من الانكشاف إلى لحظة التوازن: قراءة فلسفية في التحولات القومية بين 2003 و2023

صحيفة الهدف

أ‌. ماجد الغوث                                        

أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

شهد الوطن العربي في العقود الأخيرة واحدة من أعمق اللحظات السياسية وأكثرها قسوة في تاريخه المعاصر. فقد مثّل عام 2003 نقطة انكشاف استراتيجي غير مسبوقة، حين تعرّض العراق للاحتلال الأمريكي، وأُسرت قيادته، وأُعدم قادته، الذين شكّلوا أحد أهم ركائز المشروع القومي العربي في القرن العشرين. لم يكن ذلك الحدث مجرد سقوط نظام سياسي، بل كان انهيارًا لميزان القوة العربي، وتفككًا لعمود الارتكاز، الذي شكّلته التجربة الوطنية العراقية في مواجهة مشاريع التفتيت والهيمنة.

ولم يكن الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 مجرد احتلال عسكري تقليدي، بل كان مشروعًا سياسيًا شاملًا أعقبه مباشرة إصدار الحاكم المدني الأمريكي بول بريمير للقرار المرقم (1) في 16 مايو 2003، الذي عُرف بـقانون (اجتثاث البعث). لم يكتفِ هذا القانون بحل الحزب، بل شرَّعَ عملية إقصاء منهجية شملت مئات الآلاف من الكوادر العراقية من جميع مناصب الدولة، بمن فيهم الأساتذة والمهندسون والأطباء والمعلمون، وغيرهم.

هذا القانون لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان أداة تفكيك للمؤسسة العراقية الحديثة وتجريفًا متعمدًا للخبرات الوطنية، التي بنت الدولة العراقية طوال عقود. وقد خلَّفَ فراغًا مؤسسيًا وسياسيًا تحول إلى بيئة خصبة للفوضى والصراعات الطائفية، كما أسهم في تعطيل عجلة الدولة وإفقار المجتمع من كفاءاته.

ولكن المفارقة التاريخية تكمن في فشل هذا القانون الذريع في تحقيق غايته الأساسية: اجتثاث البعث كفكرة ونضال. فبعد عقدين من إصداره، ظل الحزب حيًا في الوعي والنضال، وعاد ليمارس نشاطه في السر والعلن، متكيفًا مع الظروف الجديدة. بل إن القانون نفسه أصبح أحد أسباب تصاعد التيار القومي، حيث حوَّل الاضطهاد إلى عامل توحيد وتعاضد بين المناضلين.

وما يؤكد هذا الفشل هو:

• استمرار العمل الحزبي النضالي عبر أجيال جديدة.

• عودة رموز بعثية للمشاركة في الحياة السياسية تحت أسماء وتشكيلات مختلفة.

• تحوّل الحزب من نضال دولة إلى نضال مجتمع مقاوم

• صمود الفكرة القومية رغم كل محاولات القمع والإقصاء

والأخطر أن قانون الاجتثاث تجاوز كونه قرارًا محليًا ليصبح نموذجًا استراتيجيًا فاشلًا استُخدم لاحقًا في محاولات تفكيك الهياكل الوطنية في أقطار عربية أخرى، لتكرر نفس التجربة: إضعاف الدولة دون القضاء على الفكرة. لقد مثَّل هذا القانون الوجه الآخر للاحتلال: إذا كان الاحتلال العسكري يستهدف الأرض، فإن الاجتثاث استهدف الذاكرة المؤسسية والنسيج الاجتماعي، ولكنه فشل في استهداف الروح المقاومة والعقيدة الفكرية.

هذا الانكشاف لم يبقَ محصورًا في حدود العراق؛ فقد ترتّبت عليه تداعيات قومية ممتدة طالت لبنان وفلسطين والسودان ومصر واليمن… إذ وجدت تلك الأقطار نفسها أمام فراغ استراتيجي كبير، وتحولات داخلية وخارجية عمّقت هشاشتها السياسية والأمنية، فيما تمددت القوى الإقليمية والدولية في قلب الوطن العربي، مستثمرةً غياب التوازن القومي، الذي كان الحكم الوطني في العراق يمثّله.

ولم تقتصر تداعيات الانكشاف على الأقطار المذكورة، بل امتدت إلى بنية النظام العربي ككل، إذ تغيّرت توازنات الخليج العربي، وتصاعد النفوذ الإقليمي لغير العرب، وتراجعت الأدوار التاريخية لدول كانت تشكّل ركيزة في العمل القومي. كما أدّى الانكشاف إلى تحولات في مسارات التنمية والاقتصاد، وزيادة ارتهان بعض الدول للمحاور الدولية.

لكن التاريخ، بطبيعته الجدلية، لا يستقر على فراغ. فكما يترك الانهيار ندوبه، يترك أيضًا بذور الاستعادة. وهكذا جاءت اللحظة المفصلية في 7 أكتوبر 2023، حين أعاد الشعب الفلسطيني إلى الوعي العربي جوهر الصراع ورهاناته الكبرى. في تلك اللحظة لم يعد الفلسطيني مجرد ضحية، بل عاد إلى دوره التاريخي: مركز اختبار الإرادة العربية.

العودة إلى التوازن: 7 أكتوبر كمنعطف تاريخي: الهجمة الص-هيونية على غزة، التي امتدت قرابة عامين مثّلت واحدة من أشرس الح-روب الحديثة من حيث حجم الدمار، ونوعية الأسلحة، وكثافة القصف في مساحة جغرافية ضيقة. آلاف الشهداء من النساء والأطفال، عشرات الآلاف من الجرحى والمعتقلين، مدن مُسحت بالكامل، وبنى تحتية تحولت إلى ركام. ومع ذلك — وربما بسبب ذلك — برزت معجزة الصمود الفلسطيني.

ولم يكن هذا الصمود حكرًا على الرجال؛ فقد لعبت المرأة الفلسطينية دورًا محوريًا في خطوط المواجهة الأمامية والخلفية على السواء. كانت الأم، والممرضة، والمعلمة، والمق.اتلة، وصوت المخيم في العالم. لقد أثبتت المرأة العربية، في فلسطين والعراق ولبنان والسودان، أنّ معركة الحرية لا تكتمل دون حضورها الفاعل.

لقد صمد الشعب الفلسطيني بطريقة أربكت (الكيان الصهيوني المغتصب)، وحرّكت موجات واسعة من التضامن العالمي.

صمودٌ أثبت أن الموازين ليست فقط أرقامًا عسكرية، بل أيضًا إرادة تاريخية تدرك الشعوب قوتها في أشد اللحظات ظلمة. وهكذا تحولت غزة إلى مصدر إلهام عالمي، وإلى نقطة توازن جديدة كسرت صورة (الإسرائيلي الذي لا يُهزم) ورسّخت صورة (الفلسطيني الذي لا يُقهر (.

فشلت كل مشاريع الإخضاع، وكل المخططات، التي أرادت تحويل غزة إلى نموذج للترهيب. وإذا بشعب الجبارين يعيد للعرب بوصلتهم، ويقدّم للعالم درسًا في المقاومة الإنسانية قبل أن تكون سياسية.

الدور الصامت: القيادة القومية وصلابة النضال القومي: وبالتوازي مع الصمود الشعبي، شهدت الساحة القومية مسعى هادئًا لإعادة ترميم الهياكل النضالية والفكرية للتيار القومي، في ظروف اتسمت بالانقسام والتدخلات الخارجية. ورغم محدودية الأثر المباشر لهذا العمل مقارنة بثقل الملحمة الفلسطينية، فإنه أسهم في إعادة بناء قنوات التواصل بين الأقطار وفي بعث الحياة داخل مؤسسات كانت مهددة بالركود، وفق المنطلقات التاريخية، التي أرساها دستور 1947.

لقد أعاد هذا الجهد، بصبر ودأب، ترميم ما تركه انكشاف 2003 من شروخ، وفتح الطريق أمام عودة النضال البعثي القومي الفاعل، لا كشعار تاريخي. وتشير الكتابات والمداولات الصادرة في أقطار تونس، الجزائر، المغرب، ليبيا، اليمن، العراق، وفلسطين، خلال السنوات الأخير، إلى حجم العمل النضالي والفكري، الذي تم بذله في صمت، من أجل إعادة الروح إلى المؤسسات الحزبية، واستئناف الانتخابات الداخلية وفق دستور 1947، وإعادة وصل ما انقطع بين البنى النضالية في الوطن العربي.

هذا العمل، وإن لم يظهر إعلاميًا، إلا أنه كان يشكّل شرطًا ضروريًا لاستعادة التوازن القومي. فالحركة القومية لا تنهض دون تنظيم، ولا تنظيم بلا قيادة تمتلك الوعي التاريخي والشجاعة والانضباط.

وإذا كان الشعب الفلسطيني قد قدّم الدم والملحمة على الأرض، فإن مسارات أخرى كانت تسير بالتوازي، منها الجهود النضالية للتيار القومي ممثلًا بالقيادة القومية للبعث، وممثلًا في مساعد الأمين العام الأستاذ المناضل والمفكر على الريح السنهوري، الذي خاض معركة إعادة بناء النضال عبر الأقطار العربية، في ظل ظروف معقدة وتمزقات سياسية وأمنية خانقة. هذه الجهود، وإن كانت محدودة التأثير بالمقارنة مع الزخم الشعبي العارم، إلا أنها سعت في صمت إلى إعادة بناء البنى النضالية في ظروف بالغة التعقيد. لا ندعي هنا أن العمل النضالي كان العامل الحاسم في التحول، لكنه كان جزءًا من محاولات متعددة لإعادة الخيط المقطوع.

بُعد اقتصادي استراتيجي: ومن منظور اقتصادي استراتيجي، شكّلت الفترة بين 2003 و2023 واحدة من أكثر المراحل اضطرابًا في تاريخ الاقتصاد العربي. فقد تعمقت الفوارق التنموية بين الأقطار، وتزايد التبعية في قطاعات الغذاء والطاقة والسلاح، وتبدّل موقع الوطن العربي في مؤشرات القوة العالمية. هذا التراجع في القدرة الاقتصادية كان جزءًا من منظومة الانكشاف الشامل، وجزءًا من التحديات، التي تجعل لحظة الاستعادة الراهنة ذات دلالات مضاعفة.

ما بين الانكشاف والاستعادة: فلسفة التاريخ والقوة: عندما يُحتل العراق، وتُصفّى نخبه، وتتفكك دول عربية أخرى، يبدو وكأن المشروع القومي قد انتهى. لكن التاريخ لا يتحرك بهذه الخطية. فالقوة ليست حالة ثابتة، بل موجة تنحسر لتعود، تتراجع لتتهيأ لاندفاعة جديدة.

لقد شكّل 2003 لحظة الانكسار، وكان 2023 لحظة عودة الوعي. وما بينهما وقف الشعب الفلسطيني بدمه، والبعث بتنظيمه، ليشكّلا معًا أساس التحول من الانكشاف إلى التوازن.  وهذا يعيدنا إلى الفكرة الأعمق: أن الأمم لا تُقاس بسقوط أنظمتها، بل بقدرتها على إعادة خلق ذاتها. لكن هذه الإعادة ليست عودة إلى الماضي، بل خلق لجديد. فلسطين 2023 لم تكن تكرارًا للعراق 2003، بل كانت تحولًا نوعيًا في أشكال المقاومة وطبيعة الصراع. والدرس الأكبر أن القوة الحقيقية لا تكمن في الأنظمة وحدها، بل في الشعوب، التي ترفض أن تموت، وفي الأفكار، التي ترفض أن تختفي، وفي الإرادة، التي تتعلم من السقوط كيف تقف من جديد.

إن إعادة خلق الأمة ليست عملية عودة إلى الأمس، بل فعل ابتكار تاريخي يمزج بين الذاكرة والمستقبل. وما بين العراق 2003 وفلسطين 2023 يتشكّل اليوم وعي عربي جديد، يتجاوز حدود الأنظمة والجغرافيا ليعيد تعريف معنى القوة ومعنى الانتماء. وإذا كان سقوط الدولة اختبارًا لمتانة النظام، فإن صمود الشعب اختبار لمتانة الأمة نفسها. وما بين الاختبارين تتحدد ملامح المستقبل.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.