سفينة الحمقى في بورتسودان: في مديح الحماقة

صحيفة الهدف

أحمد محمود أحمد

يعود مفهوم سفينة الحمقى إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وهو من أبرز الرموز التي استخدمها في كتابه الشهير “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” لشرح كيفية تعامل المجتمعات الأوروبية مع من وُصفوا بـ”المجانين” قبل ظهور الطبّ النفسي الحديث.

فوكو يستعيد صورة شائعة في أوروبا بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حين كان يُطرد “المجانين والحمقى” من المدن بوضعهم على سفن تُبحر بلا وجهة واضحة. عُرفت هذه السفن باسم “سفن المجانين”، كرمز لنفي المختلف وإلقائه خارج حدود النظام الاجتماعي. وقد جسّدت تلك الممارسة، الواقعية والأدبية معًا، عنف الثقافة الأوروبية تجاه كل من خرج عن معيارها العقلي.

أستعير هذا الرمز في السياق السوداني اليوم، حيث تشكّلت، عبر مسار جنوني، سفينة اختيارية من الحمقى والمعتوهين استقرّت في بورتسودان. سفينةٌ رمزية تمثّل فئة قليلة من الناس اتفقت على الخراب؛ اختارت أن تعزل نفسها عن التيار العام للمجتمع، لا بفعل نفيٍ اجتماعي كما في أوروبا، بل عبر شبكة معقّدة من المصالح والفرز الطبقي.

من اعتلاها صار كائنًا لا يمكن استيعابه داخل البنية المعرفية السودانية، لأنه هدم تلك البنية بالحماقة لا بالفكر.

في حمولة هذه السفينة يجتمع المعتوهون الذين لا يسمعون غير صدى أصواتهم، وقد تجمّد فيهم الإحساس بمعاناة الآخرين. التفّوا حول خيوط عنكبوت نسجوا منها استراتيجية حرب خاسرة؛ حرب بلا قضية، تتشح بالجنون حيث تُقطع الرؤوس وتُنتزع الأحشاء وتُبقر البطون، بينما حمقى السفينة يرفعون شارة (النصر) فوق جثث الوطن.

وكما في الفيزياء قانون الجاذبية، ففي الاجتماع البشري جاذبية من نوع آخر؛ تجذب المتشابهين إلى بعضهم. وقد انجذب هؤلاء، في وعي، أو في غياب كامل للوعي، إلى بعضهم البعض، وتمترسوا داخل سفينة الحمقى في بورتسودان.

ما يجمعهم حقًا هو الجهل الفاضح، والعناد الأعمى ضد إرادة المواطن، وخيوط الفساد التي تربطهم بتقاسم الثروة المنهوبة من جيوب الفقراء.

ليس بينهم مثقف حقيقي، ولا شاعر، ولا سياسي، ولا عسكري؛ فكأنهم وُلدوا جميعًا من طينةٍ واحدة.. طينة السجم.

والأخطر أن قاطني هذه السفينة، في سياقها السوداني، يقودون بلدًا دمّرته الحرب. تسير السفينة بالبلد كله نحو المجهول، وتبحر عكس التيار، لأن من بداخلها حمقى بالفعل؛ لا يرون الواقع إلا بعيون معتمة تعكس ظلام السفينة لا ظلام البحر.

تفتقد السفينة البوصلة، ويبدو قائدها منفعلًا بالأمواج المتلاطمة، يظن أنها تصطف لأجله كي تقول: “سِر أيها الكاهن إلى سدرة المنتهى”.

أما الذين يصفّقون لربّان هذه السفينة من الخارج فهم الممجدون للحماقة. وهذا المديح ليس “مديح الظل العالي” كما صوّر محمود درويش ظلّ المقاومة الفلسطينية عاليًا وهو بطبيعته منخفض.

فالذين في سفينة بورتسودان لا ظلّ لهم أصلًا؛ إنهم أشباحٌ متكسّرة في بؤرة عتماء، يختفي فيها الظل كما يختفي الإنسان السوي، ويبقى الحمقى وحدهم يدفعون سفينتهم، ومعهم الوطن، إلى مصير لم يختره سوى الحماقة.

 #سفينة_الحمقى #بورتسودان #السودان #ميشيل_فوكو #تاريخ_الجنون #فوضى_القيادة #الأزمة_السودانية #ملف_الهدف_الثقافي

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.