بقلم:
أ. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
أ. ماجد الغوث
في الثالث عشر من سبتمبر 2025، أصدرت الحركة الإسلاموية السودانية بيانها الاستراتيجي الجديد، محاولةً أن تُعيد إنتاج خطاب قديم في زمن تغيَّر فيه كل شيء. بيانٌ يرفض وقف الح-رب بحجة أنها (حرب رباعية) تُدار من الخارج، ويصف القوى السياسية السودانية بالخيانة والعمالة، ويقدّم نفسه كمدافع عن البلاد في مواجهة (التمرد) و(الغزو الأجنبي( لكن — وبعينٍ لا تخطئ — بدا البيان كصوتٍ يأتي من الماضي، من زمنٍ انهار، ومن خطابٍ فقد كل شرعية.
الحقيقة، التي يراها الجميع — وإن تغافل البعض — أن الح-رب المشتعلة بين الدعم الس-ريع والحركة الإسلاموية ليست حرب وطنية، بل ح-رب مصالح ضيّقة، صراع على السلطة والثروة، وح-رب استباقية لمنع سقوط ما تبقى من منظومةٍ فقدت كل سند اجتماعي.
فالناس تشوف… ومعمشة.
والناس تسمع… ومطنّشة.
لكن الحقيقة لا تُطمس بإغماض العين ولا تُمحى بتجاهل الأذن.
1. جذور الأزمة: من انقلاب 1989 إلى انتفاضة ديسمبر 2018 الثورية
في 30 يونيو 1989، استولت الحركة الإسلاموية على السلطة عبر انقلاب عسكري أطاح حكومة ديمقراطية منتخبة عام 1986. جاء الانقلاب بعد أن كشفت الأحزاب الديمقراطية حجم الفساد، الذي بدأ يتسرب إلى مؤسسات الحركة الاقتصادية، وبعد أن ظهرت اتجاهات قانونية لمحاسبة رموزها.
ومع السنوات، شيّدت الحركة شبكة اقتصادية موازية للدولة؛ سيطرت على البنوك، الشركات، التجارة الخارجية، التعدين، الأراضي، وحتى القوات المسلحة. كانت الدولة السودانية — ببساطة — تُدار كمؤسسةٍ خاصة.
ثم جاءت انتفاضة ديسمبر الثورية2018، فأسقطت حكمهم الذي دام ثلاثة عقود. لم يسقط نظام سياسي فحسب؛ سقطت المظلّة، التي كانت تحمي المال والسلطة والشبكات السرية.
2. لحظة الانكشاف: لجنة إزالة التمكين: لأول مرة منذ 1989، فُتحت الملفات:
• فساد المؤسسات.
• الحسابات السرية.
• الشركات الوهمية.
• أراضي الدولة المنهوبة.
• الأموال المُهرّبة.
لجنة إزالة التمكين — بقانون الثورة — أعادت للدولة مليارات الدولارات، ووضعت أصابعها على مفاصل الشبكة الاقتصادية للحركة. وهنا بدأ الخوف الحقيقي: خوف الحركة من ضياع إرث ثلاثين عامًا من التمكين.
3. التحالف مع الدعم الس-ريع: علاقةٌ بُنيت على المنفعة لا العقيدة: رغم كراهية الحركة الإسلاموية العلنية لقوات الدعم الس-ريع، إلا أن الحقيقة التاريخية واضحة: الدعم الس-ريع لم يولد خارج رحم النظام القديم.
بل كان إحدى أدواته، وذراعه العسكرية لضرب الحركات المسلحة منذ منتصف التسعينيات.
وبعد الثورة، تلاقت مصالح الطرفين:
• الدعم الس-ريع يخشى ملاحقة لجنة إزالة التمكين لأمواله وشبكاته،
• والحركة الإسلاموية تخشى انكشاف ملفات فسادها واستئصال نفوذها داخل الجيش والدولة.
فكان انقلاب 25 أكتوبر 2021 ثمرة هذا التحالف التكتيكي. تحالف بُني على الخوف — لا على الثقة.
4. ح-رب 15 أبريل 2023: رصاص يطلقه الخوف… لا المبادئ: عندما اندلعت الح-رب بين الجيش (الذي تسيطر عليه بقايا الحركة الإسلاموية) والدعم الس-ريع، لم تكن ح-رب وطنية ضد غزو خارجي، ولا دفاعًا عن سيادة الدولة كما يدّعي البيان الأخير. كانت — ببساطة — ح-رب استباق:
• الحركة الإسلاموية تخشى أن يتغوّل الدعم الس-ريع ويقصيها من آخر حصونها: الجيش.
• والدعم الس-ريع يخشى أن تتخلص منه الحركة الإسلاموية بعد تثبيت أقدامها.
إنها ح-رب على مستقبل السلطة. لا علاقة لها بوحدة التراب، ولا بالدين، ولا بالسيادة، بل هي صراع بين معسكرين كلاهما نتاج لنظام واحد.
5. لماذا تصرخ الحركة الإسلاموية اليوم؟ لأنها خسرت ما كانت تعتبره منحةً إلهية لا تزول:
أ. خسرت مالها: قدّر خبراء اقتصاديون حجم الأموال، التي سيطرت عليها الحركة — قبل الثورة — بأكثر من 150 مليار دولار. وفي الح-رب الأخيرة، ضاعت شبكات التمكين المالي، نُهبت مخازنها، وتفككت شركاتها.
ب. خسرت كوادرها: آلاف من عناصرها سقطوا في الح-رب، وانهارت طبقتها الوسطى، وتشردت بنيتها التنظيمية.
ت. خسرت الدولة: لم يعد لها وجود في المؤسسات العسكرية أو المدنية. لا جهاز أمن، لا خطاب ديني جامع، لا غطاء قانوني، ولا حاضنة اجتماعية.
ث. خسرت الرواية: فالسودانيون، الذين ذاقوا ويلات حكمها، لم يعودوا يصدقون شعاراتها عن (المؤامرة الخارجية) أو (حرب الكرامة(
6. الحقيقة القاسية، التي ترفض الحركة الإسلاموية رؤيتها: لم تعد الحركة الإسلاموية موجودة إلا في البيانات. لا نفوذ اقتصادي، ولا قوة صلبة، ولا حاضنة جماهيرية، ولا مشروع سياسي. إنها اليوم تحاول أن تحجب شمس الحقيقة بأصبعها… لكن الشمس لا تُحجب.
الناس شايفة… مهما عُمِّشت. والناس سامعة… مهما طَنَّشت.
الخلاصة: النهاية، التي صنعتها أيديهم: الحركة الإسلاموية لا تُهزم اليوم في ح-رب عسكرية، بل تُهزم في ح-رب الحقيقة:
• سقطت حين انهار مشروعها الأخلاقي.
• وانكشفت حين جفّ نهر المال.
• وتعرّت حين انفضّ عنها المجتمع.
وها هي تحاول أن تبعث نفسها في الزمن الضائع… لكن التاريخ — حين يُغلق فصلًا — لا يفتحه مرة أخرى.
ولعلّ أكثر ما يكشف هشاشة البنية الفكرية والسياسية للحركة الإسلاموية هو ذلك البيان الصادر من أمينها العام نفسه، الذي أعلن ـ بلا مواربة ـ موافقة الحركة على وقف إطلاق النار، قبل أن تتراجع الحركة بعد أيام قليلة وتتبنى خطابًا نقيضًا تمامًا، وكأنها تتنقل بين المواقف لا وفق رؤية، بل وفق نوبات انفعال سياسي. هذا التذبذب لا يعكس اضطرابًا تكتيكيًا فحسب، بل يعكس غيابًا للمركز الداخلي، الذي يُفترض أن تستند إليه أي حركة تمتلك مشروعًا ناضجًا. واللافت أن الحركة، في لحظة تراجعها، بدت وكأنها تدفع قائد الجيش دفعًا إلى تبني خطابٍ أكثر تشددًا، حتى تمارس لعبتها القديمة: أن تتوارى خلف المؤسسة العسكرية بينما تستعدي الرباعية وتستدرج نقاشًا دوليًا معها هي، لا مع الدولة. كأنها تحاول إنتاج مواجهة لا تحتاجها البلاد، لتختبئ خلف صخبها، رغم أنها لم تعد تمتلك لا الشرعية ولا السند الشعبي ولا القدرة على حمل مثل هذا العبء. إن هذا الارتباك المتكرر، وهذه الحركات الاهتزازية بين الرفض والقبول، بين الصراخ والصمت، لا تكشف قوة موقف، بل تكشف خواءً داخليًا، وضياع البوصلة، وفقدان القدرة على قراءة اللحظة التاريخية، التي تعيشها البلاد. إنها حركة لم تعد تملك قدرة المبادرة، فصارت تعيش على ردّات الفعل؛ ولم تعد تمسك بخيوط اللعبة، فصارت تدفع الآخرين إلى الواجهة لتختبئ خلفهم. هكذا تتحول الحركة، من فاعلٍ تاريخي ادّعت أنها كانت عليه، إلى ظلٍّ مرتبك لا يعرف ما يريد، ولا كيف يتحدث، ولا إلى أين يمضي.

Leave a Reply