منذ سقوط النظام البائد في أبريل 2019، ظلّ مجلس السيادة بشقّه العسكري بمكوّناته المتنوعة من قيادة الجيش والدعم الس-ريع والحركات المسلحة المتحالفة مع النظام القديم امتدادًا مباشرًا لسلطة الثلاثين عامًا، في الذهنية والأساليب والأهداف. وقد تجسّد ذلك في سلسلة من الخطوات، التي استهدفت تقويض مسار التحول المدني من فض الاعتصام إلى إعاقة حكومة الثورة، ثم انقلاب 25 أكتوبر، وانتهاءً باندلاع ح-رب 15 أبريل، التي انفجرت نتيجة خلاف داخلي بين شريكي الانقلاب حول الاتفاق الإطاري.
لكن في هذا المقال، المأزق الأكبر ليس في تلك الأحداث نفسها، بل في العداء السافر والمستمر تجاه القوى المدنية؛ عداء يتجاوز المواقف السياسية ليصل إلى خطاب تحريضي يومي، تُحمَّل فيه القوى المدنية كل أوزار الخراب، الذي صنعته الأنظمة العسكرية المتعاقبة على مدى ثلاثة عقود.
1. العداء
كاستراتيجية دفاعية نقل الفشل ورمي التهمة على الآخرين
يعرف المكوّن العسكري وحلفاؤه أن الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية في السودان صنيعة حكمهم وحدهم. فمنذ 1989 وحتى اليوم، كان العسكريون والإسلاميون وواجهاتهم المسلحة هم من يديرون الدولة، يصنعون القرار، ويحتكرون القوة والسلاح والمال.
ومع ذلك، يصرّون على أن القوى المدنية، التي لم تتولَّ الحكم إلا لعامين محدودين ووسط عراقيل ضخمة هي المسؤولة عن الانهيار.
هذا الخطاب ليس بريئًا إنه جزء من استراتيجية قديمة تهدف لخلق عدو بديل يُحمَّل الفشل، بينما تبقى السلطة الفعلية بمنأى عن المحاسبة.
2. القوى المدنية جريمة قول لا للح-رب
المفارقة الأكبر أن القوى المدنية لم تفعل شيئًا يستحق هذا السعار، سوى أنها
رفضت الح-رب منذ يومها الأول
رفضت الانحياز لأي طرف مسلح
تمسّكت بخيار الحل السياسي وعودة الحكم المدني
وهذه المواقف البسيطة في نظر من أشعل الح-رب تُعد ج-ريمة.
لأن أي طرف مسلح يريد شرعية لق-تاله، ويريد مدنيًا يصفق له، ويعطيه غطاءً ثوريًا أو أخلاقيًا.
لكن القوى المدنية، بكل أطيافها، قالت بوضوح
لا للح-رب، لا للاصطفاف العسكري، لا لعودة الحكم بالشراكة.
هذه التي أربكت العسكر والفلول أكثر مما أربكت خصومهم في ميدان المعركة.
3. لماذا يخشون القوى المدنية؟
لأن القوى المدنية رغم ضعفها التنظيمي تمنح الشارع رؤية بديلة للدولة دولة بلا عسكر في السياسة، بلا مليشيات، بلا فلول، بلا امتيازات خارج القانون.
وهذا تهديد وجودي لمن بنى نفوذه على السلاح وريع الدولة.
ولذلك يمارسون
التشويه اليومي
الخطاب التخويني
صناعة الأكاذيب
تحميل المدنيين كل أزمات البلاد
من الانقلاب إلى الح-رب إلى انهيار الدولة!
إنه هجوم يهدف إلى ق-تل الفكرة قبل ق-تل أصحابها.
4. الكراهية المنظمة منابر ووسائط
وجيوش إلكترونية
المكوّن العسكري والفلول والحركات المسلحة يديرون اليوم أوسع ماكينة تحريض إعلامي منذ سقوط البشير، عبر
إعلام الدولة
المنصات الموالية للفلول
جيوش إلكترونية متناسقة
خطباء منابر يرددون سرديات الح-رب والجهاد
ونشطاء يمارسون التخوين بدرجة احترافية
كل هذا فقط لأن القوى المدنية اختارت السلام بينما اختاروا هم الحسم بالسلاح
5. المفارقة المضحكة المبكية
أولئك الذين حكموا السودان 30 عامًا بالفساد والتمكين، الذين قادوا انقلابًا في 25 أكتوبر، الذين أشعلوا حربًا مدمرة
هم أنفسهم من يرفع اليوم شعار
المدنيون سبب خراب السودان!
وكأن تاريخ السودان يبدأ من 2019 وينتهي عند منشور مفبرك في فيسبوك!
6. خلاصة المشهد
العداء المتفجر تجاه القوى المدنية ليس عفويًا، وليس رد فعل طبيعي.
إنه محاولة يائسة لطمس مسؤولية تاريخية كاملة
معركة وجودية يخوضها من عاشوا على السلطة والسلاح
خوف من انتقال حقيقي للمدنية والحكم الديمقراطي والأهم
لأن القوى المدنية رغم ضعفها ما زالت تقول ما يخشاه الجميع
أن السودان لن ينهض إلا بدولة مدنية كاملة، لا يتحكم فيها عسكر ولا مليشيات ولا فلول.

Leave a Reply