بقلم: أ. ماجد الغوث
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
مقدمة: تبدو الحرية في الوعي العام مسألة بديهية لا تستدعي الفحص أو إعادة التفكير، غير أن تاريخ الفكر السياسي والفلسفي يكشف أن الحرية من أكثر المفاهيم تعقيداً وتحوّلاً، وأنها ترتبط دائماً بظروف الإنسان الثقافية والاجتماعية والمعرفية. فالحرية ليست مُعطى جاهزاً، بل بناء تاريخيّ يختلف باختلاف الأزمنة والمجتمعات، وتزداد حساسيتها كلما ارتبطت بمسألة السلطة والدولة والإرادة الجماعية.
ومفهوم (الحرية المطلقة) يكاد يكون وهماً نظرياً؛ فالحرية دائماً مُقيّدة بالقانون والأخلاق والنظام العام وبحقوق الآخرين. غير أنّ حرية التعبير تحديداً تظل من أكثر الحريات التصاقاً بكرامة الإنسان، لأنها تمثّل صلب وعيه الذاتي والوجودي، وهي منطلق كل إصلاح سياسي واجتماعي. ولهذا يُجمع الفلاسفة من جون ستيوارت ميل إلى حنّة آرندت على أن الحرية ليست غياب القيود فحسب، بل هي القدرة على الفعل والقول والمشاركة في المجال العام.
وفي التراث الإسلامي، يأتي مقصد عمارة الأرض باعتباره غاية الشريعة، ما يجعل حرية الإرادة والفعل أساساً لازدهار الإنسان، شريطة ألا تتحول إلى ضرر بالآخرين. فالمقاصد الكبرى —الحرية، العقل، الكرامة— لا تُصان إلا في بيئة تسمح بتداول الأفكار، لا في بيئة تُخضع المعرفة للرقابة أو الاحتكار. فالحرية الممنوعة تولّد مجتمعات مُستلبة، بينما الحرية المؤسسية تُنتج مجتمعات حيوية قادرة على التجدد.
أولاً: الحرية في الفكر القومي: قراءة في دستور حزب البعث: يمنح دستور حزب البعث العربي الاشتراكي أهمية مركزية لفكرة الحرية، باعتبارها ركيزة في بناء الإنسان العربي، المواد (28، 29) نصّت على:
1. حرية القول والاجتماع والاعتقاد والفن (مقدسة)،
2. تحرير الإنسان مرتبط بتحرير المجتمع،
3. المساواة أمام القانون،
4. وضع تشريعات حديثة منسجمة مع روح العصر.
كما اعتبر أن حرية الإنسان العربي لا تتحقق إلا في مجتمع عربي متحرر من الاستعمار والاستبداد والتجزئة.
يتمثل حضور الحرية كقيمة تأسيسية في الفكر القومي لحزب البعث، حيث لا تُقدَّم الحرية بوصفها مطلبًا فرديًا فقط، بل كشرط حضاري لنهضة الأمة العربية. فالربط بين حرية القول والاجتماع والاعتقاد وبين تحديث التشريعات يعكس رؤية تعتبر الحرية محركًا للتقدم، لا مجرّد شعار سياسي. كما أن التأكيد على المساواة أمام القانون يضع الحرية ضمن إطار مؤسسي، لا ضمن رغبات أو مزاجيات فردية. أما الربط بين تحرر الإنسان وتحرر المجتمع من الاستعمار والاستبداد والتجزئة، فيعكس تصورًا شموليًا يرى أن الحرية لا تُجزَّأ: فلا يمكن للإنسان أن يكون حرًا في بيئة سياسية مجزأة أو في نظام اجتماعي يحدّ من قدرته على المشاركة. وبهذا تتبدى الحرية عند البعث كغاية ووسيلة معًا—غاية لأنها تمثل جوهر الكرامة الإنسانية، ووسيلة لأنها الطريق لبناء مجتمع عربي قادر على التطور والانخراط في روح العصر
. ثانياً: الديمقراطية والحرية: علاقة تكامل لا تطابق:
العلاقة بين الديمقراطية والحرية وثيقة لكنها غير متطابقة. فالديمقراطية، في جوهرها، نظام سياسي لتنظيم السلطة وتداولها عبر آليات محددة: الانتخابات، التعددية، التمثيل، والمساءلة. أما الحرية فهي أسلوب حياة يشمل الفكر، المعرفة، الجسد، الاقتصاد، والاختيار الفردي.
لا تكفي الانتخابات الحرة للدلالة على وجود الحرية؛ فقد تُجرى الانتخابات في ظل إعلام مُقيّد، أو في ظل دولة تهيمن على المجال العام، أو في ظل خوف اجتماعي يفرغ العملية السياسية من معناها.
والديمقراطية، كي تكون حقيقية، تحتاج إلى حد أدنى من الحرية التي تسمح للمواطنين بتكوين أحزاب، الاحتجاج، التعبير، وتداول المعلومات. بدون هذه الحريات تتحول الديمقراطية إلى “إجراء شكلي” أو “احتفال انتخابي” بلا مضمون.
الفكر السياسي الحديث يميّز بين: (الديمقراطية المباشرة، والديمقراطية الشعبية، والديمقراطية الصناعية، والديمقراطية التمثيلية، والديمقراطية المركزية) وكما يلي:
1. الديمقراطية المباشرة: هي أقدم أشكال الحكم، يمارس فيها المواطنون السلطة بأنفسهم دون ممثلين، كما في أثينا القديمة. تُستخدم اليوم عبر الاستفتاءات والمبادرات الشعبية. قوتها في تأكيد سيادة الشعب مباشرة، لكن محدوديتها أنها قد تُستغل لتوجيه الرأي العام أو تمرير قرارات شعبوية.
2. الديمقراطية الشعبية: تقوم على فكرة أن “الجماهير” تدير الدولة عبر لجان أو مجالس، وتُستخدم غالباً في الأنظمة الثورية أو الاشتراكية. نظرياً تهدف لتحرير الشعب من الهيمنة، لكن عملياً تحولت في كثير من التجارب إلى غطاء لاحتكار السلطة بحجة تمثيل “الإرادة الشعبية”.
3. الديمقراطية الصناعية: تركّز على مشاركة العمال في اتخاذ القرارات داخل المؤسسات الإنتاجية، لا داخل الدولة فقط. تهدف إلى تحقيق عدالة اقتصادية عبر تقاسم السلطة في أماكن العمل. نجحت في أوروبا، لكنها ضعيفة في الوطن العربي بسبب محدودية التنظيم النقابي.
4. الديمقراطية التمثيلية: هي الأكثر انتشاراً اليوم، يعتمد فيها المواطنون على انتخاب ممثلين يتخذون القرار نيابة عنهم. تمتاز بالقدرة على إدارة الدول الحديثة، لكنها تواجه أزمة ثقة بسبب ضعف الأحزاب، تأثير المال، وتراجع المشاركة الشعبية، مما دفع إلى الدعوة لدمجها مع أدوات الديمقراطية المباشرة.
5. الديمقراطية المركزية: وتقدّم الديمقراطية المركزية نموذجًا مغايرًا صاغته الحركات الثورية والتنظيمات العقائدية، حيث تتداخل المشاركة مع الانضباط في بنية واحدة. فالفكرة تقوم على مبدأين متلازمين: حرية النقاش داخل الأطر التنظيمية، ووحدة التنفيذ خارجها. أي إن الأعضاء يشاركون في إبداء الرأي وصنع السياسات داخل الحزب أو المؤسسة، لكنهم يلتزمون كامل الالتزام بتنفيذ القرار بعد صدوره، حتى وإن خالف بعض قناعاتهم الفردية. وبهذا تتحول الديمقراطية إلى آلية لبناء إرادة جمعية موحدة، تُقدّم الانسجام التنظيمي على التعددية المفتوحة. ورغم جاذبية هذا النموذج في البيئات التي تواجه صراعات أو تحتاج لسرعة الحسم، إلا أنه غالبًا ما ينزلق إلى تكريس سلطة مركزية قوية تحدّ من حيوية المشاركة، فيتحول (الاتساق) إلى نوع من الانغلاق، وتغدو الديمقراطية شكلًا يُغطي مركزية القرار وهيمنة القيادة العليا.
ورغم اختلاف النماذج، يبقى المبدأ الأساس: لا ديمقراطية من دون مواطن قادر على التفكير بحرية، والاختيار بحرية، وتغيير الحاكم بحرية، ومحاسبة السلطة دون خوف.
ثالثاً: الواقع العربي: أين تقع الحرية من التجربة السياسية؟: التجارب العربية تكشف تفاوتاً كبيراً بين النصوص الدستورية والممارسة الواقعية:
1. العراق: وقبل الاحتلال الأميركي عام 2003، شهدت البلاد ممارسات سياسية اتخذت طابعًا مؤسسيًا من خلال إجراء الانتخابات وتشكيل الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، إلى جانب وجود مساحات منظَّمة للعمل الإعلامي والصحافي. ورغم اختلاف القراءات حول طبيعة تلك المرحلة، إلا أنها مثّلت تجربة سعت إلى بناء إطار سياسي يقوم على مشاركة قوى متعددة ضمن مشروع وطني واحد، بما فيه من محاولات لإيجاد أنماط من التمثيل السياسي وتنظيم الخطاب العام.
2. تونس: توسّعت حرية التعبير بعد 2011 ثم شهدت تراجعاً مؤخراً بعودة المركزية الرئاسية.
3. مصر: انتخابات دورية لكن المجال العام يخضع لضوابط صارمة تحد من حرية الإعلام والتنظيم.
4. لبنان: مساحة حرية واسعة نسبياً ولكنها مقيدة بالانقسامات الطائفية.
5. السودان: مثال صارخ على غياب الضمانات المؤسسية؛ إذ انهار الانتقال الديمقراطي، واندلعت الح-رب نتيجة صراع على السلطة في غياب بيئة سياسية حرة ومستقرة.
هذه التجارب تؤكد حقيقة مركزية: أي ديمقراطية بلا حرية مسبقة ومؤسسية تتحول إلى مشروع هشّ قابل للانهيار في أي لحظة.
رابعاً: الح-رب السودانية: الحرية بين العنف وانهيار الدولة: يشكّل السودان اليوم نموذجاً مؤلماً لفشل التحول السياسي حين تُبنى العملية الديمقراطية على أرضية رخوة. فالحرب ليست حدثاً عسكرياً فحسب، بل انهياراً لمفهوم الحرية ذاته. فغياب المؤسسات المستقلة، وضعف القضاء، وتسييس القوات النظامية، وغياب المجال العام الحر، جعل البلاد عاجزة عن بناء انتقال ديمقراطي متماسك.
والدرس السوداني —كما الدرس العربي الأوسع— هو أن الحرية ليست امتيازاً مؤجلاً إلى ما بعد الاستقرار، بل شرطاً جوهرياً لتحقيق الاستقرار ذاته. فالاستبداد لا ينتج سلاماً، بل ينتج انفجارات مؤجلة، وأن غياب الحرية ينتج صمتاً وليس استقراراً.
خلاصة واستنتاجات: إن الحرية ليست محاولة للانفلات من القيود بقدر ما هي محاولة لبناء علاقة صحية بين الفرد والدولة والمجتمع. والديمقراطية ليست شكلاً سياسياً أو إجراءً انتخابياً، بل هي امتداد طبيعي لحرية المواطن وقدرته على الفعل.
وفي الوطن العربي، حيث تختلط الهويات بالتاريخ، والسلطة بالمصالح، والدولة بالمجتمع، يصبح الحديث عن الديمقراطية دون حماية الحرية أشبه بمحاولة بناء سقف بلا جدران. الديمقراطية تحتاج إلى:
1. قضاء مستقل.
2. إعلام حر،
3. مجتمع مدني قوي،
4. فصل حقيقي للسلطات،
5. ثقافة سياسية تحترم التعدد،
6. وضمانات تمنع عسكرة المجال السياسي.
وإلا فإننا سنظل نكرر التجربة ذاتها: (انتخابات بلا حرية… وديمقراطيات بلا ديمقراطيين… وانتقالات تنتهي في العنف أو الاستبداد).
المراجع
1. عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، ط5، 2012.
2. زهير عبد المجيد، الديمقراطية والحرية حين تتعارضان، 2009.
3. حزب البعث العربي الاشتراكي، الدين والقضايا الدينية في فكر البعث، الطليعة، تونس، 2013.
4. يوسف هريمة، الحرية من المنظور المقاصدي – من يضع الحدود؟، 2024.
5. دستور حزب البعث العربي الاشتراكي.
6. الديمقراطية وحقوق الإنسان — محمد عابد الجابري
7. الحرية في الفكر العربي المعاصر (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات, 2016)

Leave a Reply