هيثم الشفيع
ترسّخت في ذهني فكرةٌ مفادها أن بعض المبدعين ينعون أنفسهم دون أن ينتبه الآخرون لذلك إلا بعد رحيلهم، وقد ثبتت هذه الفكرة لديّ منذ سماعي لقصيدة (مصابيح السما التامني.. وطشيش) لحميد، تلك التي يقول إنها مرثية لصديقه مصطفى سيد أحمد. لكنك إن تأملت الكثير من مقاطعها، ستجد أنها تتحدث بوضوح عن حميد نفسه. هذه الفكرة التي تحوّلت مع مرور الزمن وتكرار التجارب إلى قناعة، عاودتني وأنا أقرأ أحد نصوص الراحل ياسر عوض، عليه رحمة الله ورضوانه. ذاك الرجل الذي ينطبق عليه عنوان أحد الفصول من كتاب قرأته عن أدباء أفارقة؛ ففي الفصل المخصّص للنيجيري وول سوينكا، قيل عنه إنه: (سبع صنايع وبخت غير ضايع). وكان ياسر، عليه الرحمة، تماماً كـ(سوينكا): شاعر، وكاتب، ومخرج، ودرامي، وناقد، وفوق هذا وذاك كان وطنيًا من الطراز الرفيع، لا يستطيع أن يفارق وطنه ولو لحظات، إلا بجسده فقط. والآن.. لك أن تتخيّل أن هذا المقطع من كتابته: )الموتُ.. ينشر في موائدِنا ما لذّ من انهيارٍ وطاب الموتُ.. يبني قبوراً من ضحكةِ الأصدقاء من لقاءِ الحبيباتِ بعيداً عن أعينِ الرقباء الموتُ.. لا يلتفتُ ولا يعنيه صوتُ العتاب الموتُ يمسّد ضفيرتَنا القصيرةَ رموشَ عينينا يسكن تفاصيلَ البيوتِ العِذاب) لماذا تراه يتحدث عنه بهذه الحميمية؟ ولماذا يُسبغ عليه كل هذه الصفات؟ هل لأنه كان يشعر بأنه يراقبه من بعيد، مثلما راقب هو الموتَ وأحصى صفاته؟ ثم يعود ليقول: (أين لحدي ومساءُ الح.ربِ طويلٌ طويل.) هنا ينتقل من التلميح إلى التصريح، متسائلًا عن زمان ومكان رحيله. ويؤكد يقيني بأنه لم يستطع الفكاك من قبضة محبته للوطن، حين يقول: (يسلّمُنا الرحيلُ إلى الرحيل ولا نرى الأصحاب بلادٌ علمتنا أن نحنَّ إليها خبّأتنا بين القلبِ وطياتِ الثياب بلادٌ علمتنا أن كلَّ الدموعِ سواء وأن الحزنَ جامعٌ للحي نُصَلّيهِ في أوقاتِنا الحُرّى ونرتقي فوقه للسحاب) رحمك الله يا ياسر.. وأنت ترى ما لم ننتبه له، وتصرّ على أن تلقننا دروسًا في المحبة والفقد، بينما نتابع مئات الحسابات على فيسبوك وبقية الوسائط وهي تتناقل فجيعة رحيلك. أطياف مختلفة ذرفت عليك الدموع، وودّعتك إلى مثواك الأخير بمختلف التعابير واللغات. تقبّلك الله في أعلى عليّين، وأنت تؤكد قبل رحيلك وبعده قولك: )نحن سنبقى ويموتُ الرصاص نحن سنبقى ويرحلُ عن أرضِنا سماسرةُ الح.ربِ المزمنة نحن سنبني وطنَ الحبِّ والأنسنة ونوقفُ نزيفَ الأكاذيبِ على أبوابِنا نحن سنبقى ويبقى معنا شهداؤنا وعطرُ السوسنة نحن سنبقى ويموتُ الرصاص ( الرحمة والمغفرة وأعلى الجنان للراحل ياسر عوض، ولآله وأسرته وأصدقائه وكل من عرفوه الصبر وحسن العزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #هيثم_الشفيع #مراثي_الذات #رثاء #شعر #وطن_الحب_والأنسنة

Leave a Reply