صبرًا آل ياسر.. فالفقد جلل

 عبد المنعم مختار

في صباحٍ ينوء بالحزن، رحل عن دنيانا المبدع المتكامل ياسر عوض، ذلك الذي عبَر دروب الفن والفكر والإعلام بخطى واثقة، وترك في كل محطة أثرًا لا يُمحى. رحل الجسد، لكن سيرة هذا الرجل العصامي ستبقى تتوهّج في ذاكرة كل من عرفه، أو عمل معه، أو نهل من عطائه. كان ياسر عوض شاعرًا يمتلك حسًا مرهفًا، وناقدًا يرى ما وراء النص، وروائيًا ينسج العوالم بشغف، وصحفيًا يلتقط جوهر اللحظة بذكاء وقدرة على التأثير. جمع بين الخيال والرؤية، وبين الحرفة والبحث الدؤوب عن الجمال. وحين دخل عالم التصميم، حمل الذائقة الفنية في يده، فصار المصمّم الذي يضيف للمشهد لمسةً لا تخطئها عين، ثم واصل رحلته على الخشبة مخرجًا مسرحيًا يعرف كيف يوقظ النص من سباته ويمنحه روحًا نابضة. ومن الجامعة الأهلية، حيث عمل أستاذًا، ظل ياسر يشعل في طلابه شغف المعرفة، يفتح لهم نوافذ جديدة، ويعلّمهم أن الإبداع ليس مهنةً بل نمط حياة. ولم يكتفِ بذلك، بل خاض تجربة الإخراج الوثائقي، فأخرج أفلامًا حملت روح المكان والإنسان، ثم تقلّد إدارة “قناة الخرطوم” ليضيف إلى رصيد المدينة الإعلامي رؤيةً أكثر حداثة وعمقًا. وليس غريبًا أن يكون أحد المؤسسين البارزين لـ”كورال لحن الحياة”، المجموعة التي شكّلت ملامح صوت جديد في الوجدان السوداني، إذ كان يؤمن أن الفن يغيّر، وأن النغم قادر على أن يلمّ الجراح. وفي صحيفة “الهدف” كان ياسر الإعلامي أحد أعمدة التطوير، تقدّم بخبرته ورؤاه ليُحدث نقلة نوعية في العمل الإعلامي، وكان لـ(الملف الثقافي) نصيب الأسد من بصماته. ومع أسرة التحرير، تشارك الأحلام والطموحات، وساهم بجدية في وضع ملامح مشروع قناة فضائية رائدة، وأعدّ دراسة جدوى كاملة لهذا الحلم الذي كان ينتظر لحظة الميلاد. وحتى في أيامه الأخيرة، كان يكتب.. يعمل على روايتين جديدتين، ويعد كتابًا توثيقيًا عن أعمال الراحل الطيب صالح، يقرأ ويبحث ويخطط، وكأنه يكتب عمرًا إضافيًا لا رحيل فيه. وكان يحلم بتحويل (ملف الهدف الثقافي) إلى إصدار ورقي مستقل، مواصلًا ما بدأه في معركة الوعي والجمال. اليوم نودّعه، وقلوبنا مثقلة بما تركه رحيله من فراغ. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجعل مقامه في الفردوس الأعلى، مع الصديقين والشهداء والصالحين. صبرًا آل ياسر.. فالفقد جلل، والمصاب واحد، لكن الأثر خالد لا يموت.

#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #عبد_المنعم_مختار #المبدع_المتكامل #كورال_لحن_الحياة #رحيل_جسد_وبقاء_أثر #رثاء