إيكاروس الفنون: ياسر عوض

صحيفة الهدف

د.أزهري محمد حامد

“الفنان يرى الحياة قبل الآخرين”. أبو عدي “الإبداع هو القدرة على ربط الأشياء غير المترابطة”. ستيف جوبز “الشعر هو لغة الوجدان”. علي بن أبي طالب “الفن هو الصمت الذي يسبق الإبداع”. محمد بن إبراهيم الوزير “الإبداع هو رؤية ما لا يراه الآخرون”. وليام شكسبير يقال إن المرء مخبوء تحت لسانه، وكما يختبئ الفرد تحت لسانه، تختبئ الأمة كلها تحت لسانها. لذلك، حين نتحدث عن الأفذاذ، وعن الأدباء متعددي المواهب، المتقشفين الزاهدين، ندرك أن هذا الجمال الباذخ يملك الحق في أن يبلغ العالم. وليس هذا من قبيل الزهو أو التحيّز، بل من باب التشخيص المهني الذي يرى الحقيقة بعيون مدرّبة، بزاوية نظر مكتملة، وببصيرة قادرة على الفصل بين المطلق والنسبي، بين الضوء وظله. وحين يكون الفنان جزءًا من معادلة الوعي، ويكون سلوكه متسقًا مع فنه، عندها تصبح الحواس مثقفة، والعين مثقفة، والعقل مثقفًا، فيثمر ذلك فنًا أصيلًا يعمّق معنى الحياة. الحديث عن الفنان والصديق ياسر عوض ليس انحيازًا، ولا مجاملة، بل إقرار بحقيقة موهبة استثنائية. فهو ليس فنانًا عابرًا، ولا شاعرًا اقتادته المصادفة إلى الكتابة، ولا مخرجًا يقف على هامش المشهد؛ بل ظاهرة فنية اجتمعت فيها الرؤية البصرية، والخلق الفني، والثقافة المرئية التي آمنت بالإنسان وكرامته. كان ياسر عوض رجلًا ممتلئًا بالإحساس النبيل، زين الله به الكون، فاجتمع فيه لطف الفنان، وزهد العارف، ورقّة الصوفي الذي التهمت الكلمات قلبه، فنهض واقفًا، وترك أثرًا يملأ الدنيا ويشغل الناس. وفي حضرته تتقاصر الكلمات؛ يصبح اللفظ عاجزًا عن حمل المعنى، ويغدو البيان قاصرًا أمام مقامه. فقد كان ياسر حصيلة التراكم الفني والمعرفي في رحلة وطنٍ مجروح، كان يحلم بأن يراه معافى، ويشبهه بوجه أمه. لقد أسْرَج خيول الشوق، وواجه غدر الزمان، مستحضرًا ما قاله موسى شعيب :”أسْرِج خيولَكَ إنّ الرّؤْمَ تقتربُ… ووجهُ أمّكَ قتّالٌ به العَتَبُ”. لكن الرؤم لعبت بنا يا ياسر، وقسّمت دمنا، وتاه الوطن بين الساسة وأشباه الرجال الذين رأوا فيه مجرد بقعة يمكن التفريط بها. أمّا أنت فكنت ترى الوطن بستان نخيل، وجرّة ماء، ووجه أمّهاتنا. كانت خسارتنا فادحة لولا حضورك في حركة الفنون السودانية، وفي مسيرة الثورة العربية. كيف نبدأ الطريق إليك، وقد تركت أمامنا أسئلة معلّقة ورغبات مؤجلة وحنينًا لا يهدأ؟ لقد أثرت فينا كوامن الزمن الجميل: ليل بغداد، ربيع أم الربعين، دفء الأيام الأولى… ثم غادرت، وتركت لنا فراغًا شاسعًا ووطنًا منكسِر الملامح. ترجع علاقتي بياسر إلى أيام الطفولة؛ كنا زميلين على “الكنبة” في المدرسة الابتدائية والثانوية بمدينة ود مدني، تلك المدينة الحسناء التي تحمل نكهة الدنيا. لعبنا معًا في فريق المدرسة، وكان ياسر لاعبًا موهوبًا، متعدد المواهب، متفردًا في دراسته، شديد الشغف بالأدب والرواية، عاشقًا للمسرح والرسم والتشكيل. كان ياسر من الذين يُقرأ لهم في الطابور المدرسي؛ فمواضيعه في مادة العربي كانت تتجاوز مرحلته، وتسبق سنّه، وتدهش أساتذته وزملاءه. افترقنا حين غادرت أسرته ود مدني، ثم جمعنا القدر من جديد في بغداد، حيث وجد ياسر في جامعاتها فضاءً يليق بحلمه، فانبثق فيه بركان الفن والوعي، وولد مرة أخرى بولادة الموهبة في بيئة تحتضنها. رحم الله ياسر عوض رحمة واسعة، وجعل مثواه الفردوس الأعلى، وجمعنا به في جنات النعيم. إنا لله وإنا إليه راجعون.

#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #د_أزهري_محمد_حامد #إيكاروس_الفنون #ود_مدني #بغداد #رثاء #فنان_شامل

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.