المليشيات التي أسقطت هيبة الدولة

صحيفة الهدف

د.عادل العوفي
كاتب من البحرين
الدولة المدنية، التي تتجلى فيها المؤسسات والأحزاب المجتمعية الملتزمة بمبادئ العمل السلمي ورؤية تطوير المجتمع، تمثل قوة دافعة نحو التقدم والازدهار. تتباين هذه الأحزاب بين اليمين والوسط واليسار، متبنية منهجيات متنوعة، في إطار من التنوع الفكري والثقافي. وتخضع هذه الكيانات، بما فيها الأحزاب والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية والعمالية، لقوانين وتشريعات تحافظ على هيبة الدستور وسلطة الدولة. كما أن هذه الدولة تُحاط بحماية داخلية وخارجية من خلال جيش وطني، يمتلك القوة والسلاح الضروريين للدفاع عن تراب الوطن وحماية سيادته.
مع تحول الأحزاب السياسية في بعض الدول العربية إلى مليشيات مسلحة تمتلك الأسلحة والتدريب العسكري، وحصلت على التمويل الخارجي، وتحتل مقرات حزبية محصنة، أصبحت هذه الجماعات خارج نطاق الدولة، بعيدة عن الجيش النظامي، وقاعدتها تتكون من المدنيين العاديين.
بدأت هذه المليشيات في فرض سيطرتها على مناطق محددة، واستبدلت المال بالخدمات التي كانت تقدمها الدولة، مثل المستشفيات ومؤسسات الإقراض، والمدارس الخاصة، والمراكز الدينية. كما صرفت رواتب شهرية لأعضائها، مستغلة بذلك معدلات البطالة، والحاجة المادية، والفساد المنتشر، والفقر المستفحل.
هذا التوجه أيضًا حوَّل الانتخابات البرلمانية والنقابات ووزارات الدولة ومؤسساتها المصرفية إلى صراعات فئوية متعددة، مما أسهم في إضعاف هيبة الدولة، وأدى إلى انقسامات شعبية ذات طابع طائفي وعرقي وديني. ونتيجة لذلك، أصبحت تلك الطوائف تشكل تحالفات كبرى، لا يجمعها أي رابط وطني حقيقي، مما أدى إلى تفككها،
ومع تزايد قوة تلك المليشيات، أقدمت على اختيار أعلامها وشعاراتها الخاصة، متجاهلة العلم الوطني للدولة، وأسست إعلامًا خاصًا بها وقنوات إعلامية قد تفوق من حيث التقنية قنوات الدولة ذاتها. هذه المليشيات بمركزها الحزبي وبالمساعدات المالية التي تصلها بانتظام تتحمل تكاليف رواتب الكوادر الإعلامية التي تدعم أيديولوجيتها السياسية.
وجعلت من العنف والتهديد والاغتيالات وسيلة لقمع المفكرين والكتاب الذين أبدوا اعتراضهم على توجهاتها.
ومع توسع هذا الكيان الذي عجزت الدولة عن التصدي له، أصبح يدير المفاوضات الخارجية واللقاءات المتعلقة بالحدود الوطنية، فضلًا عن مناقشة الثروات الوطنية والاتفاقات الأمنية.
تعاني هذه الدول اليوم من حالة من عدم الاستقرار السياسي، حيث فقدت السيادة، واتجهت نحو الفوضى، وتهالكت هويتها الوطنية، مما جعلها تواجه تحديات جسيمة في إعادة بناء وصيانة هيبتها المفقودة.
إن المليشيات المسلحة التي تشكلت في بعض الأقطار العربية، ورغم تسلحها، لم تتمكن من الوقوف في وجه التدخلات والتحديات الخارجية، كما فشلت في حماية زعمائها ومواقعها وقدراتها العسكرية عند اشتداد الصراعات الخارجية. وقد تجلى ضعفها من خلال الانقسامات الداخلية، فلم تستطع الحفاظ على تماسكها، إذ إنها ليست جيشًا نظاميًا مدربًا، بل أُنشأت أساسًا للهيمنة على الداخل.
إن ظهور المليشيات المسلحة في عمق الأوطان لا يعتبر خيارًا حكيمًا، بل أسهم في تعميق الانقسامات الشعبية على أسس طائفية وعرقية. فهذه المليشيات لم تكن على غرار حركة (البارتيزان) التي تتكون من فرق مقاتلة من مختلف الأعراق، والتي وقفت في وجه الغزاة خلال الحرب العالمية الثانية، دفاعًا عن التراب والشعب ككل. بل إن المليشيات المسلحة الفئوية تمثل تجربة لم تحقق إنجازات وطنية، بل كانت سببًا في تفتيت المجتمعات العربية، حيث اتخذت قرارات منفردة ومصيرية بعيدًا عن إرادة الشعب والدولة، مما أدى إلى إضعاف هياكل الدولة وسقوط مكانتها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.