قراءة في التحوّل الوجودي لثرواتنا الاقتصاد الأخضر في الوطن العربي: من ريع النفط إلى ريع الشمس

صحيفة الهدف

ليس من المبالغة القول إن الوطن العربي يقف اليوم عند عتبة تحوّل تاريخي لا يقل عمقًا عن اكتشاف النفط نفسه. فهذه المنطقة التي تحتضن 60% من احتياطي النفط العالمي، تحمل في الوقت ذاته 80% من إمكانات الطاقة الشمسية غير المستغلة على كوكب الأرض. إنها مفارقة تكثّف المأزق والفرصة في آن واحد: هل نستمر في اقتصاد الأمس الذي أنهك البيئة وقيّد التنمية، أم نغتنم اقتصاد الغد الذي تقدّمه الشمس بسخاء فوق صحارينا الممتدة؟
هذه ليست مجرد قضية اقتصادية؛ إنها سؤال وجودي حول مصير المنطقة وهويتها ودورها في عالم يعيد تشكيل نفسه تحت ضغط المناخ والتكنولوجيا والتحولات الجيوسياسية.
في الصحراء القاسية التي كانت تُعدّ رمزًا للجدب، تتشكل الآن واحدة من أكبر فرص التحول في تاريخ العرب:
أن تتحول الرمال، تلك المساحات الميتافيزيقية الممتدة بلا نهاية، إلى منجم طاقة. تقديرات البنك الدولي تشير إلى إمكانية خلق 2.5 مليون فرصة عمل خضراء بحلول 2030، إذا أحسنت الأقطار العربية إدارة هذا التحول.
وتظهر ملامح هذا المستقبل في مشاريع مدهشة:
– مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية (دبي): الأكبر عالميًا بطاقة مستهدفة تبلغ 5000 ميجاوات.
– مشروع نيوم (السعودية): أول مدينة كبرى تعمل بالكامل بالطاقة المتجددة.
– مشروع “مصدر” (الإمارات): مركز عالمي للابتكار الأخضر.
هذه المشروعات ليست بنى تحتية فقط، بل هي إعادة صياغة للعلاقة بين الإنسان العربي وبيئته؛ انتقال من منطق الاستهلاك إلى منطق الإبداع، ومن استنزاف الطبيعة إلى الازدهار معها.
غير أن هذا التحوّل لا يحدث في فراغ. فالمنطقة تواجه تحديات وجودية تُحاذي مواردها:
– التبعية النفطية ما تزال تشكل 85% من إيرادات دول الخليج العربي.
– أزمة المياه تضرب بجذورها العميقة: 14 قطر عربي تحت خط الفقر المائي.
– الاستهلاك الحراري في الشرق الأوسط يمثل 8% من طاقة التبريد العالمية.
وبين هذه المتناقضات، يظهر الاقتصاد الأخضر ليس كترف، بل كضرورة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فالطاقة الشمسية مثلًا لم تعد مجرد خيار اقتصادي، بل حل مباشر لأزمة المياه عبر التحلية بالطاقة المتجددة.
هكذا تتقاطع أزمة الطاقة مع أزمة المياه في نقطة واحدة: الشمس.
وتكشف الدراسات أن المنطقة تمتلك مخزونًا غير محدود من الإمكانات غير المستغلة:
22 مليون تيراواط/ ساعة سنويًا من الطاقة الشمسية،ما يعادل 15000 ضعف احتياجاتها الحالية.
أما طاقة الرياح فتغطي المغرب ومصر والسعودية بممرات هوائية عالية الجودة.
وفي الزراعة، يفتح الاقتصاد الأخضر الباب أمام أنظمة ري ذكية، وزراعة مستدامة، وتقنيات لإدارة المياه تقلل الفاقد وتزيد الإنتاج.
ولعل أبرز النماذج الملهمة اليوم:
– المغرب: ينتج 42% من طاقته من مصادر متجددة، ويستهدف 52% بحلول 2030.
– مصر: تمتلك محطة “بنبان” الشمسية، الأكبر في إفريقيا والشرق الأوسط.
– الإمارات: أول دولة عربية تتبنى استراتيجية وطنية شاملة للاقتصاد الأخضر.
لكن قبل بناء اقتصاد أخضر، ينبغي بناء عقل أخضر. وهنا تظهر (العوائق غير المرئية):
– إرث الريع النفطي الذي شكّل العقلية الاقتصادية العربية لعقود.
– ضعف الاستثمار في البحث والتطوير (أقل من 1% من الناتج المحلي في معظم الاقطار العربية).
– غياب رؤية عربية موحدة، رغم أن الطاقة المتجددة بطبيعتها عابرة للحدود.
هذه ليست معوّقات تقنية فقط، بل عقبات فلسفية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الإنسان العربي وبيئته، وبين الحكومات والمجتمع، وبين الحاضر والمستقبل.
ومن هنا تتضح ضرورة صياغة عقد أخضر عربي جديد؛ عقدٌ لا يقوم على استنساخ نماذج خارجية، بل على تحويل الخصوصية العربية إلى مصدر قوة:
– تحويل دعم الطاقة التقليدية إلى دعم للطاقة المتجددة.
– بناء سوق عربية مشتركة للطاقة النظيفة، تربط الخليج العربي بالمغرب العربي عبر شبكات كهرباء ضخمة.
– استخدام الطاقة الشمسية كمدخل لحل أزمة المياه.
– الاستثمار في (الإنسان الأخضر): التعليم، الابتكار، ريادة الأعمال، والاقتصاد الدائري.
لقد تحولت الجغرافيا العربية، بصحاريها ومياهها القليلة وسمائها المشمسة، من (لعنة موقع) إلى (نعمة موقع).
ولم يعد على العرب الاختيار بين النفط والشمس، بل إعادة ترتيب العلاقة بينهما:
النفط يبني التحول.. والشمس تموّل المستقبل.
فالاقتصاد الأخضر ليس بديلًا للنفط فقط، بل هو رؤية جديدة للحياة.
رؤية تجعل من الصحراء ثروة، ومن الشمس رأسمالًا، ومن المياه فرصة، ومن العقل العربي فاعلًا لا تابعًا.
والاقتصاد الأخضر هو الامتحان الحقيقي لهذا التغيير: من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الاستدامة، ومن اقتصاد الريع إلى اقتصاد المعرفة، ومن عجز الواقع إلى وفرة الإمكان.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.