العقل العسكري والعقل السياسي: مقاربة تفسّر سلوك السلطة والحرب في السودان

صحيفة الهدف

بقلم: أ.عثمان إدريس أبو راس

تتضح الفجوة الواسعة بين العقل العسكري والعقل السياسي عند مقاربة مواقف قادة الح-رب والسلطة في السودان. فالعقل العسكري يقوم على مبدأ الطاعة الهرمية الصارمة: الرتبة الأعلى تُطاع بلا نقاش، والرأي الأدنى لا يُعتدّ به، ولا مكان لحوار قد يزعزع ثبات سلطة الرتب. في المقابل، يتأسس العقل السياسي على طاعة الجماعة، وعلى ثقافة الحوار والتداول والنقد، بحيث يصبح إمكانية الأخذ برأي “الأدنى” جزءًا من صناعة القرار لا تهديدًا له.

العقل العسكري ينظر إلى ذاته باعتباره أعلى من المدنيين مكانة، فيما يقوم العقل المدني على مساواة المواطنين، بمن فيهم العسكريون، أمام السلطة السياسية والقانونية. كما أن تكوين العسكريين المهني يستند إلى مناهج واحدة تتمحور حول القوة البدنية والصناعات الح-ربية والانضباط، بينما تتعدد مدارس التكوين السياسي بتعدّد المرجعيات العقائدية والفكرية للأحزاب.

في داخل المؤسسة العسكرية نفسها، لا يُنظر إلى حملة المؤهلات الأكاديمية—طبّية أو هندسية أو غيرها—كجزء من النخبة العسكرية الحصرية، بل تبقى المكانة الحقيقية محصورة في “أبناء الرتب” وخريجي الكليات العسكرية. ومن هنا يمكن قراءة إنكار الجيش لتأثير التيارات الإسلامية على مواقفه، رغم ترسّخ هذا التأثير في بنيته وولاءاته وطبقات قياداته.

وعلى خلاف السياسي الذي يقبل أنصاف الحلول والتسويات ويستوعب فكرة الربح والخسارة المشتركة، يرى العقل العسكري أن معاركه تنتهي فقط إلى نصر أو هزيمة، وهي نظرة تجعل الح-رب امتدادًا طبيعيًا لمفاهيمه، بينما تعتبرها السياسة أداة اضطرارية تُفضَّل تجنّبها لصالح التفاوض.

هذه المقاربة تساعد في فهم خطاب قادة الح-رب في السودان اليوم. فخطاب الفريق البرهان الأخير، على سبيل المثال، ينسجم تمامًا مع عقلية “علو صوت البنادق على البرامج السياسية”، حيث تُختزل الشرعية في القدرة على الق-تال لا في امتلاك رؤية لإدارة الدولة. ويمكن في السياق نفسه استحضار حديث سابق لحميدتي حين قال: “ما داير مجمجة.. الرجالة في الميدان ما في اللسان”—وهي عبارة تعبّر عن ذهنية عسكرية ترى القوة الميدانية وحدها مصدرًا للحقيقة والمكانة.

هكذا يتبدّى أن جوهر الأزمة السودانية ليس مجرد تنازع بين قادة، بل بين عقلين: عقل يريد تحويل السلطة إلى امتداد طبيعي للقوة، وعقل يقوم على السياسة بوصفها وسيلة للتعاقد والتوافق. وما لم يُحسم هذا التناقض البنيوي، ستظل الح-رب تجد مبرراتها داخل الدولة بدلًا من أن تُعدّ استثناءً عليها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.