بقلم/أ.صلاح الدين أبو القاسم
تفرض التحولات العميقة، التي يشهدها السودان منذ ثورة ديسمبر 2018 قراءة تتجاوز ظاهر الأحداث إلى بنية الصراع نفسها، باعتباره مواجهة بين مشروعين متعارضين:
مشروع يسعى لإعادة تأسيس الدولة السودانية على أسس مدنية وديمقراطية، في مقابل مشروع مضاد يستند إلى إرث ممتد من الحكم العسكري وتحالفات إقليمية ترى في التحول الديمقراطي تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية.
وفي قلب هذا المشهد يعود سؤال: “هل من مانديلا سوداني؟” وهو سؤال يبدو في ظاهره بحثًا عن قيادة جامعة، لكنه عمليًا يمثل إعادة تعريف للأزمة السودانية بوصفها أزمة أشخاص لا أزمة دولة.
هذا التحويل ليس بريئًا؛ إذ يسمح بإعادة تدوير السلطة داخل بنية النظام العسكري نفسه مع إضفاء غطاء مدني يسهّل قبولها داخليًا وخارجيًا.
الدور المصري: مقاربة أمنية لإدارة التحول السوداني
ترتكز الاستراتيجية المصرية تجاه السودان على أربع ركائز واضحة:
1. حساسية التحول الديمقراطي على حدودها الجنوبية
فنجاح تجربة انتقالية مستقرة في السودان يضع نموذجًا ملهمًا في بيئة لا ترغب القاهرة في رؤيته متمددًا.
2. العلاقة التاريخية مع المؤسسة العسكرية السودانية
وهي علاقة مثّلت عبر عقود قناة التواصل الأكثر ثباتًا وتأثيرًا.
3. ملفات المياه والحدود والأمن الإقليمي
ولا تفضّل مصر أن تُدار هذه الملفات الشائكة ضمن بيئة ديمقراطية مفتوحة على الرقابة البرلمانية والرأي العام.
4. موازين القوى في البحر الأحمر وشرق إفريقيا
فالسودان الديمقراطي القوي قادر على إعادة إنتاج توازنات جديدة تقلّص هامش الحركة الإقليمي التقليدي.
ومن هذا المنظور، كان الدور المصري – قبل وبعد 25 أكتوبر – أحد العناصر الفاعلة في توجيه العملية السياسية عبر دعم قراءات عسكرية محددة أو الترويج لمبادرات سياسية تُبقي إعادة إنتاج السلطة داخل الإطار القديم.
سؤال “مانديلا” كأداة لإعادة صياغة الشرعية
تُقدّم بعض المنابر الإقليمية فكرة أن السودان بحاجة إلى “زعيم جامع” قادر على توحيد الصفوف.
ورغم جاذبية هذا الطرح، إلا أنه يطرح ثلاث إشكالات أساسية:
1. تجاهل حقيقة أن الأزمة السودانية هي أزمة مؤسسات وليست أزمة أفراد.
2. تبسيط التناقضات البنيوية العميقة باعتبارها خلافات شخصية.
3. فتح الباب لإعادة إنتاج سلطة مرتبطة بالجيش مع واجهة مدنية محدودة.
بهذا المعنى يصبح البحث عن “الزعيم المنقذ” إطارًا سياسيًا يُستخدم لتبرير ترتيبات تُبقي السلطة الفعلية خارج دائرة الشرعية الديمقراطية.
مسار الدولة أم مسار الأشخاص؟
تُظهر تجارب الانتقال السياسي في العالم أن بناء الديمقراطية لا يعتمد على “شخص استثنائي” بل على:
مؤسسات قوية تضبط قواعد اللعبة السياسية
عقد اجتماعي جديد يعالج التفاوتات التاريخية
جيش محترف يخضع للدستور
نخبة سياسية تدير السلطة باعتبارها مسؤولية وطنية لا امتيازًا شخصيًا
ومن هنا، فإن اختزال الأزمة في “غياب مانديلا سوداني” تتجاوز جوهر المشكلة وتُبقي الدولة أسيرة البحث عن بطل.
السودان… نحو مشروع دولة لا مشروع زعامة
يمكن القول بثقة إن مستقبل السودان لن يُحسم بالسؤال عن “من يقود”، بل بالسؤال الأهم: كيف تُبنى الدولة؟
فالدولة، التي يحتاجها السودان ليست دولة أشخاص، بل دولة مؤسسات وقانون وعدالة، دولة تستمد شرعيتها من الشعب لا من الرموز.
إن التوازنات الإقليمية – بما فيها الدور المصري – ستظل مؤثرة، لكن قدرة السودانيين على إنتاج مشروع وطني جامع هي التي ستحدد شكل السلطة المقبلة.
السودان اليوم بحاجة إلى برنامج واضح وخطاب سياسي جامع وآليات شراكة وطنية تحفظ حقوق المواطنين وتثبت دعائم السلام.
فالثورة الحقيقية تبدأ حين تنتقل السلطة من الأفراد إلى النظام، ومن الزعامات إلى المؤسسات.

Leave a Reply