م عبدالمنعم مختار
في زمن الح-رب، تتحول وزارات الدولة جميعها إلى خطوط تماس، لكن تبقى وزارة الدفاع هي العقدة المركزية، التي يُقاس بها تماسك الدولة أو انهيارها. فهي المؤسسة، التي تحمل عبء القرار العسكري، وتدير ميزانيات ضخمة، وتتحكم في مسار المعارك، وتتحمل مسؤولية حماية الوطن حين تتراجع بقية المؤسسات. ومن يجلس على رأس هذه الوزارة لا يكون مجرد مسؤول عادي، بل صاحب موقع حساس، تتقاطع فيه المعلومات والسلطة والمال والسرية.
ولذلك، فإن استقالة وزير الدفاع – في هذا التوقيت الحرج – ليست حدثًا عابرًا ولا خبرًا يمكن مروره كبقية الأخبار اليومية. ففي بلد لا يُعرف فيه تقليد الاستقالات ولا يُمارس فيه الاعتراف بالمسؤولية السياسية، تصبح هذه الخطوة فعلًا استثنائيًا يطرح أسئلة أكبر مما يجيب.
الأخبار المتداولة حول خلفيات الاستقالة تكشف صورة أكثر قتامة:
حديث عن فساد واسع داخل الوزارة، نهب مالي بمبالغ مهولة، وملفات أوقفت لأنها تلامس “رؤوسًا كبيرة”. كل ذلك يفتح باب الشك حول طبيعة منظومة الحكم في بورتسودان، ويطرح سؤالًا صريحًا: إذا كان وزير الدفاع نفسه يصطدم بجدار الفساد، فمن المتحكم الفعلي في القرار العسكري والمالي؟
الاستقالة – إن صحت – تضع علامات استفهام حول الفوضى داخل القيادة العسكرية:
عجز عن اتخاذ القرار في ساحات القت-ال.
تضارب في إدارة المعارك وغياب رؤية موحدة.
مراكز نفوذ تفرض أجندتها على الجيش.
وأموال تُصرف بلا رقابة، ومحاسبة تغيب كلما اقتربت الملفات من أصحاب النفوذ.
هكذا تبدو الصورة: وزير يدرك أنه لا يملك القرار، ولا يستطيع مواجهة الفساد، ولا يريد أن يكون شاهد زور على منظومة تلتهم ذاتها. فاختار المغادرة… وربما الهروب قبل لحظة الانفجار.
لكن الأهم من الاستقالة نفسها هو توقيت وقوعها. ففي وسط حرب لم تُحسم، ومعارك تتعثر، ووضع اقتصادي ينهار، تصبح مغادرة رأس وزارة الدفاع مؤشرًا خطيرًا:
هل هي بداية تفكك منظومة السلطة؟
أم محاولة من الوزير للابتعاد عن سفينة باتت أقرب للغرق كل يوم؟
أم أنها مجرد حلقة في صراع أجنحة يتغذى على الدولة المنهكة؟
مهما كانت الإجابة، فالرسالة واحدة: الحكومة، التي يفقد فيها وزير دفاعها الثقة، تفقد آخر أعمدة بقائها.
إن استقالة بهذا الحجم ليست ورقة تُطوى، بل جرس إنذار يدوّي في وطن يتآكله الفساد وتنهشه الحرب. وإن لم تواجه السلطة الحقيقة، فسيكتب التاريخ أن أول مسمار في نعشها كان استقالة وزير لم يجد مكانًا نظيفًا يقف عليه في وزارة يُفترض أنها آخر حصون الدولة.
وهذا – بكل وضوح – ليس نهاية حدث… بل بداية سقوط.

Leave a Reply