في المسافات، التي يختبئ فيها الصمت بين دويّ الانفجارات، وفي الفجوات، التي تشقّها الحياة بين أنقاض المدن، تنبعث الأسئلة، التي ما توقفت البشرية يومًا عن طرحها: كيف نصون شرارة الأمل في عالم يتداعى؟ كيف نتجرأ على الحلم وسط أكوام الألم؟ وكيف نترقب فجر السلام بينما نتخبط في ليلٍ تتكاثر طبقاته كطبقات الفقد؟
هذه الأسئلة ليست ترفًا نظريًا، بل هي صرخة الوجود حين يجد نفسه معلّقًا بين البقاء والانهيار.
الأمل، في جوهره، ليس كلمة نعلّقها على جدار الخوف، بل فعل وجودي يشبه توقيعًا يوميًا نعقده مع الحياة. هو جملة المقاومة، التي نقولها للقدر في كل صباح، حتى حين تنحلّ كل الأسباب الموضوعية من حولنا. الأمل هو ذلك الضوء، الذي لا يراه إلا القلب، ضوءٌ يهمس لنا بأن في هذا الكون حكمة أعمق من الجراح، وأن كل ليل – مهما استطال – يحمل في باطنه بذرة فجر يتدرّب على التفتح.
وقد فهم كامو هذا حين رأى أن الإنسان يتمرّد ليمنح العبث معنى؛ ونحن نتمرّد بالأمل على انكسارات الزمن، وبالإيمان على اليأس، وبالروح على الجسد الجريح.
أما الانتظار، فليس الاستسلام للفوضى، بل هو صبرٌ مُبدع، تلك اليقظة الصامتة، التي تحيا داخلنا كما تحيا البذرة تحت طبقات الثلج، تحشد قواها في الظل استعدادًا لربيعٍ سيولد في لحظة لا يتوقعها أحد. الانتظار ليس زمنًا فارغًا، بل هو مختبر تنضج فيه الحكمة، وتتهذّب فيه الروح، وتتعلم فيه النفس كيف تصنع المطر في صحرائها الداخلية قبل أن يهطل عليها من السماء.
والحلم — في هذا العالم المأزوم — ليس هروبًا من الواقع بل إعادة ترميمٍ له. هو محاولة الروح أن تعيد كتابة القصة حين تصبح فصولها قاسية أكثر مما ينبغي. الحلم نافذة تهبّ منها هواء الفكرة الأولى، الشرارة، التي تبني حضارات وتُنهض أممًا. فمن رماد الح-روب نهضت شعوب لأنها لم تسمح للحلم أن يموت، ولأنها أدركت أن الخيال ليس زينة فوق قشرة الوعي، بل هو محرّك التاريخ الأول.
لكنّ الإنسان لا يعيش بهذه القوى الثلاث وحدها؛ فهناك في الظلّ قوّة لا تقلّ عمقًا: الحزن.
فالحزن ليس عدوًا أو لعنة، بل هو المعدن النبيل، الذي تُصهر فيه التجارب. هو الندبة التي تذكرنا بأننا لم نمت بعد، والجرح الذي يفتح في القلب فتحةً يدخل منها الضوء. الحزن شهادة أخلاقية على أننا لم نفقد حسّنا بالإنسان، وأن الدموع ليست ضعفًا، بل لغة كونية تنطق بها القلوب حين تعجز اللغة.
كيركغور رأى أن الحزن بوابة الوعي العميق، البوابة، التي يمرّ منها الإنسان ليعيد اكتشاف معنى الحياة الحقيقية خلف واجهات الخسارة.
لكنّ الحزن لا يكتمل إلا بتوأمه: الفرح.
فالفرح في زمن الح-رب ليس خيانة للألم، بل هو تمرّد على منطق الجراح. إنه الفرح، الذي لا يولد من غفلة، بل من وعيٍ عميق بكل ما جرى. الفرح الذي يتفتح كالوردة بين الصخور، فيعلن أنّ الحياة — رغم كل شيء — قادرة على الاستمرار.
نيتشه لامس هذا حين قال: (عليك أن تحمل الفوضى في داخلك كي تلد نجمًا راقصًا(.
فالفرح هنا ليس نقيض الحزن، بل هو نجمٌ يولد من رحم فوضاه.
العلاقة بين الحزن والفرح علاقة تكامل، لا صراع.
الحزن جذورٌ تمتد إلى الأعماق، والفرح أغصانٌ تشق طريقها نحو السماء.
الحزن يمنحنا العمق والإنصات، والفرح يمنحنا الخفة والحرية؛
والإنسان لا يكتمل إلا بهما معًا، كما لا تكتمل شجرة بلا جذور أو بلا أوراق.
الإيمان — وسط كلّ ذلك — يصبح مرساة تربطنا بما هو أبعد من الفقد. ليس إيمانًا طقوسيًا بالضرورة، بل إيمانًا بالإنسان، وبالخير الذي مهما تراجع إلا أنّه لا يُعدم، وبالحياة التي مهما تعثرت إلا أنّها تستحق أن تُعاش. إنه الإيمان، الذي يعيد ترتيب الفوضى في داخلنا، ويصنع من قلب النار معنى ومن قلب الجراح بصيرة.
أما الروح فهي المعمل السري، الذي يتم فيه كل هذا التحول.
تلك الطاقة، التي ترفض الانكسار، وتعيد صياغة الألم كحكمة، والجرح كدرس، واللحظة القاسية كبوابة نحو نضجٍ غير متوقع. كما تضغط الأرض على الفحم ليصير ألماسًا، كذلك يضغط الوجع على الروح فتنبثق منها شذرات النور.
وفي النهاية، يبقى الهدوء — ذاك الذي نبحث عنه — ليس غيابًا للعاصفة، بل اكتشاف مركز ثابت داخل الإعصار نفسه. هو هدوء الفيلسوف الرواقي الذي يعرف أين يبذل جهده وأين يسلم للأقدار، ويصنع من قبول الضعف قوةً جديدة.
ليس الهدوء انسحابًا من الحياة، بل دخولًا أعمق فيها دون أن نحترق بلهيبها.
إن رحلة الأمل والانتظار والحلم والحزن والفرح ليست مفاهيم مجردة، بل طقوس يومية نمارسها كي نحول جراحنا إلى بصائر، وشقوق أرواحنا إلى نوافذ للضوء.
وكما قال جبران:
)قد يكون الألم ثقبًا في كيانكم، لكنه قد يمتلئ بفرحٍ لا تعرفونه.(
فليكن هذا الألم هو الثقب، الذي سيملأه الغد ببهجة السلام.
وليكن انتظارنا تمرينًا على الولادة، وحزننا عبادة صامتة، وفرحنا مقاومة مضيئة.
ولنبقَ — مهما اشتدّ الظلام — بناةً للضوء، لأن النور الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل يخرج من أعماق تعلّمت كيف تشرق رغم كل شيء.

Leave a Reply