ميشيل عفلق في سبيل البعث – الجزء الخامس

صحيفة الهدف

الوطنية السودانية هي العروبة والعروبة السودانية هي الإسلام

 

يعزّ عليّ ان يكون لقاؤنا بهذه المناسبة الأليمة(1)، مناسبة غياب قائد عربي من القادة الذين يتركون فراغًا بغيابهم، ولم نكن نتوقع أن تنتهي حياة هذا المناضل والأخ العزيز بهذا الشكل المفاجئ بينما كنا نعلق الآمال الكبيرة على دوره في النضال الوطني والقومي، ولكنها إرادة الله، وليس لنا إلا أن نتأمل الحكمة في هذه الخاتمة لرفيقنا وأخينا المرحوم الشريف حسين الهندي.

هل هي خاتمة النضال؟ هل ستضعف نضالنا ونضال الحركة الوطنية في القطر السوداني العزيز أم إنها ستعطي أعمق وأروع معنى لحياة الفقيد الكبير، إذ تكون انضاجًا وتكثيفًا للمعاني النضالية، التي عاش من أجلها، فتعمل في النفوس وفي الأحداث أكثر مما لو كان حيًا؟ وهي بهذا تعبر عن صدق نضال هذا القائد، لأن الموت إذا تأملناه هو النور، الذي يشع على حياة الإنسان ويضيؤها ويُبرز أعمق معانيها ويعطيها الشكل المكتمل، لأن الإنسان صاحب القيم الأخلاقية والنضالية لا تنتهي حياته بغيابه الجسماني بل تأخذ إشراقًا وإشعاعًا جديدًا يعبر عن أعماق حقيقتها.

نحن نثق ونؤمن أن النضال الذي عاشه الفقيد بكل صدق، بكل جوارحه، بكل مواهبه، هذا النضال سيستمر وسيقوى، وإن هذه الرابطة، التي أوجدها بين الحزب الاتحادي الديمقراطي في السودان وبين حزب البعث العربي الاشتراكي ليس في السودان فحسب وإنما الحزب القومي، هي إن وصفناها بالتحالف فهذا التعبير اصطلاحي سياسي لا يرقى إلى قوة تلك الرابطة، التي أوجدها وساهم في إيجادها بما وضعه من إخلاص في البحث والسعي لتوحيد الجهود، ليس في نطاق سياسي محدود فقير، وإنما في إطار عربي قومي حضاري. هذا التحالف، هذه الرابطة الأخوية الصحيحة ستستمر وتقوى وتتعمق، وستكون روح الفقيد الشريف حسين الهندي حاضرة دومًا تلهمنا وتوحي بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، والثقة بشعبنا الأصيل، بشعبنا العربي بكل أقطاره، لأنه هو منبع الثقة ومنبع الإيمان.

 

أيها الإخوة الأحباء

عندما التقيت ذلك اللقاء الذي لا ينسى مع الفقيد رجعت بالذاكرة إلى الأربعينيات، وذكرت له زيارة الوفد الاتحادي لسورية في ذلك الحين، ذكرت ذلك لأن السودان في تفكيرنا وفي قلوبنا، السودان موجود منذ بداية حركتنا، له المكانة العزيزة، له الدور العربي، له الأصالة التي ننتعش بها. فمنذ الأربعينيات -وكانت حركتنا في بدايتها- كانت لنا هذه اللقاءات مع الإخوة المناضلين السودانيين، ومنذ ذلك الحين كان ثمة أكثر من سبب وأكثر من رابطة تجمعنا بأولئك المناضلين، وتوجِد هذا الجسر الفكري بين حركتنا وبين الحركة الوطنية في السودان، وإننا كما تعرفون، لم نرد أن تكون حركتنا مجرد حركة سياسية، لأننا استلهمنا الشعب وفهمنا بأن فشل وتعثر الحركات والأحزاب السياسية في أقطارنا العربية كان مرده -في أكثره- إلى أن هذه الأحزاب لم تكن لتروي ظمأ جماهيرنا، ظمأ شعبنا الأصيل. شعبنا ظامئ لنهضة حضارية، شعبنا متهيئ ليقظة روح الرسالة العربية فيه. هذا الشعب، الذي لن ينسى تاريخه، الذي عاش قبل قرون تلك الملاحم من البطولات ومن الإنجازات الحضارية والأخلاقية، التي خلقت للعالم بأسره مناخًا ساميًا جديدًا، مناخًا روحيًا، هذا الشعب لا يرتضي العمل السياسي الاحترافي إن لم يجد أن له صلة بقيمه الروحية، بتراثه الخالد، ولا ندّعي أننا أوجدنا شيئًا جديدًا وإنما كل ما فعلناه أننا أصغينا لروح الشعب، التقطنا الصوت العميق لضمير الشعب، التطلع الصادق لجماهير أمتنا العربية لأنها تريد وتتوق إلى نهضة شاملة وإلى حياة كاملة يسودها الانسجام ويختفي فيها التناقض، ولا تحقق تقدمًا في مجال على حساب قيمة أخرى عزيزة، لا تدخل العصر وتمتلك أدوات الحداثة على حساب تراثها وقيمها الروحية وماضيها وتاريخها. هذا التصور، الذي هو بسيط وغير معقد، ولم يكن يحتاج لأكثر من الحس الصادق والنفس الصافية، المحبة للشعب والمحبة للأرض. وأعرف بأننا نلتقي وإياكم على هذه الصورة، على هذا التصور بأنكم أنتم أيضا تريدون وتعملون من أجل نهضة حقيقية ونهضة عميقة للإنسان العربي في كل جوانب نفسه وشخصيته، وفي كل ملكاته، أن يكون الإنسان العربي المكتمل الشخصية، المؤمن بدينه، بتراثه، برسالة أمته، وفي الوقت نفسه الإنسان العصري المتحضر المسيطر على وسائل الرقي لكي يصمد في التنافس مع الدول والأمم القوية، ولكي يعطي ويعبر عن جوهر العروبة وقيمها الأخلاقية، ليس بالشكل السلبي، شكل الشكوى والضعف، وإنما بالشكل الإيجابي من منطلق القوة والثقة بالنفس والقدرة على العطاء. وعندما أقول عروبة، تعرفون بأنني أقول الإسلام أيضًا، لا بل أولًا. العروبة وجدت قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا وهو الذي أوصلها إلى الكمال، وهو الذي أوصلها إلى العظمة وإلى الخلود. هو الذي جعل من القبائل العربية أمة عربية عظيمة، أمة عربية حضارية، فالإسلام كان، وهو الآن، وسيبقى روح العروبة، وسيبقى هو قيمها الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية. هذا هو الإخلاص للشعب، هذا هو حب الشعب، هذه الحقيقة.. صحيح أننا نصل إليها في المطالعة وفي قراءات التاريخ، ولكننا نصل إليها بصورة أعمق وأصدق عندما نقترب من شعبنا ونصغي إلى دقات قلبه وإلى خلجات ضميره، إلى هذا الترادف، هذا التمازج بين العروبة والإسلام.

العروبة أيها الإخوة ليست شيئًا مختلفًا عن الوطنية، وليست شيئًا نرتقي إليه بعد الوطنية، وليست شيئًا خارج حدود القطر، العروبة هي الوطنية، هي وطنية كل مواطن في أي قطر عربي. إذا عرفنا كيف نقرأ نفَس المواطن، وكيف نكشف له عن حقيقة مشاعره وانتمائه وتطلعاته، ولقد أراد الاستعمار الأجنبي وأعداء الأمة العربية والص-هاينة والشعوبيون، ومازالوا يحاولون، أن يخلقوا تناقضات تضعف من قوة العرب وتعيق وحدتهم، فتارة الوطنية المحلية توضع في وجه العروبة، وتارة توضع العروبة في وجه الإسلام، وهكذا.. فعندما يأتي ساسة منحرفون أو مرتبطون بالعمالة للأجنبي ويقولون مصر مصرية، يقصدون إبعادها عن العرب بهذا الإلحاح على الهوية المصرية. نحن نؤمن بأن الشعب المصري هو مصري بقدر ما هو عربي، وهو عربي بقدر ما هو مصري، ولا فرق بين مصريته وعروبته إذا عرفنا كيف نرفع عنه هذا التضليل الثقافي الهجين الدخيل الذي يسلطونه عليه منذ أكثر من قرن. ونحن إذا كنا نراقب ونصطدم أحيانًا بمثل هذه التناقضات المصطنعة المفروضة في بعض الأقطار، فإننا مطمئنون إلى إنها في السودان غير واردة. فالوطنية السودانية هي العروبة بعينها والعروبة السودانية هي الإسلام في جوهره.

أنتم أيها الإخوة في بغداد.. في بغداد العرب، التي تخوض منذ عام ونصف العام حربًا دفاعية تدافع فيها عن هذه القيم، تدافع فيها عن هذا التصور للنهضة العربية، تدفع عنها وعن سائر العرب وعن المستقبل العربي شر هجمة مفتعلة فيها كل الافتعال لإيجاد تناقض بين العروبة والإسلام، لإضعاف العروبة في وقت يتكالب فيه الأعداء من كل صوب، الإمب-ريالية بكل ثقلها والص-هيونية بكل شرورها على الأمة العربية لتمزقها مزقًا، ولتمزق الشخصية العربية، شخصية الإنسان العربي، لتملأ نفسه بالتناقض، بالشكوك، لأن يفقد ثقته بنفسه وبأمته وبمستقبله ومستقبل أمته. في هذا الوقت بالذات يفتعلون معركة تقوم على خلق هذا التناقض وعلى هذا الادعاء، ولكن العراق، عراق البعث، كان أهلًا وجديرًا بأن يرد عن أمته كيد هذا الافتراء وهذا العدوان، كان مؤهلًا بالنهضة الحديثة التي بناها لنفسه بعد ثورة الحزب، وفي الروح التي يستلهمها، وفي العقيدة التي يهتدي بها، كان مؤهلًا أن يرد كيد الشعوبية الحاقدة، التي لا تريد لأمتنا أن تنهض من جديد بالرسالة العربية، وأن يجسد العراق في هذه الحرب الدفاعية معالم المستقبل، الذي يطمح إليه العرب، ومعالم الشخصية، التي يطمح إليها الإنسان العربي الجديد. فنحن أيها الإخوة نعرف بأننا داخلون ومنذ عشرات السنين في معركة قومية حضارية مع العقلية الاستعمارية والعقلية العنصرية والأطماع التوسعية، التي مثلها الغرب الاستعماري واستخدم العنص-رية الصه-يونية، كما استخدمته هي لتحقيق مآرب في مؤداها تمزيق لأمتنا وتعويق لنهضتها إن لم يكن تآمرًا على وجودها. فالمعركة الحضارية، التي يجب أن نتهيأ لها ونوطد أنفسنا لعشرات السنين كي نخرج منها منتصرين، إنما تتطلب هذا التصور الكامل الشمولي للمجتمع وللإنسان لكي نستطيع أن نلبي أعمق ما في قلوب جماهيرنا العربية من تطلعات، ونفجر أعمق ما تختزنه من طاقات، عندما ترى الصورة، التي تحلم بها فإنها تعطي بدون حساب. وانا أكرر بأنني مطمئن للقاء، للتلاقي الصميم بيننا وبين الحركة الوطنية السودانية والحزب الاتحادي الديمقراطي على هذا التصور للمستقبل العربي للإنسان العربي الجديد، للمجتمع العربي، للحاضر العربي.

كيف نخوض نضالًا ناجحًا؟ عندما نفهم حاجات الجماهير فهما عميقًا، عندما نتجاوب مع هذه الحاجات المادية والروحية، عندما نعطي القدوة، عندما نجسد هذه الأفكار في صور حية، في قيادات النضال وفي أخلاقية النضال، عندما يُحترم الإنسان، عندما يطبق الديمقراطية الحقة، عندها يتنفس شعبنا من جديد هواء الرسالة، جو الحضارة، جو النهضة الأصيلة، وكما قلت سوف يعطي في النضال وفي التضحية وفي الإبداع أضعاف ما نطلبه منه والسلام عليكم.

 

14 كانون الثاني 1982

(1) حديث مع وفد حزب الاتحاد الديمقراطي السوداني في
1982/1/14

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.