الأحجية السودانية: التراث الحي في تربية المجتمع والتعليم الشعبي

صحيفة الهدف

مؤيد الأمين

في عمق الذاكرة السودانية تظل الأحجية، أو ما يُعرف شعبيًا بـ “الحجوة“، واحدة من أعرق أشكال التعبير الشعبي التي تجاوزت دورها الترفيهي البسيط لتصبح وسيلة تربوية وتعليمية متكاملة. فهي ليست مجرد لغزٍ للتسلية في الليالي القمرية، بل مدرسة شعبية صاغت وجدان المجتمع، وغرست فيه القيم والمعرفة بطرق غير مباشرة، لكنها شديدة العمق والتأثير.

الأحجية كتراث ثقافي ومعرفي

الأحجية السودانية امتدادٌ لتراثٍ إفريقي عربي عميق نشأ في المجتمعات الزراعية والرعوية التي اعتادت الحكي والسرد كوسيلة لتناقل المعرفة. وقد تنوّعت الحجوات بحسب البيئات: فهناك أحجيات البادية التي تعتمد على الطبيعة والحيوان، وأحجيات المدن التي تميل إلى الرمزية والمفردات الحضرية. ومع مرور الزمن، تحوّلت الأحجية إلى أداة توثيق ثقافي تحفظ اللغة والعادات والمفاهيم؛ فكل حجوة هي انعكاس لمرحلة من تطوّر المجتمع، وتعبير عن ذكائه الجمعي وقدرته على تحويل الخبرة اليومية إلى معرفة رمزية.

القيمة التربوية والأخلاقية للأحجية

من الناحية التربوية، كانت الأحجية وسيلة تعليمية سبقت المدرسة والكتاب، ولعبت دورًا جوهريًا في بناء شخصية الطفل وتنمية قدراته الذهنية. فالطفل حين يستمع إلى الأحجية ويشارك في محاولة حلها، يمارس التفكير المنطقي ويختبر مهارات التحليل والاستنتاج.

كما تغرس الأحجية قيمًا اجتماعية راسخة، من أهمها:

  • الصبر والتأمل: لأن الحل لا يأتي فورًا، بل يحتاج إلى تفكير هادئ.

  • الترابط الأسري: إذ كانت تُروى ضمن حلقات الأسرة حول النار أو في أمسيات القمر.

  • الاحترام والتواضع: فالطفل يتعلّم الإصغاء للكبار والمشاركة دون تجاوز.

ورغم بساطة هذه القيم، فإنها شكّلت نظامًا تربويًا غير رسمي ساهم في تكوين السلوك الجمعي للمجتمع السوداني قبل ظهور التعليم النظامي.

الأحجية والتعليم الشعبي

لعبت الأحجية السودانية دورًا فعّالًا في التعليم الشعبي، خاصةً في البيئات التي لم تصلها المدارس مبكرًا. فالحكواتي أو “الراوي” كان أشبه بمعلمٍ شعبي يعلّم الأطفال مفردات لغتهم، ويغرس فيهم الحكمة من خلال القصص الرمزية والألغاز. فالأحجيات التي تدور حول الحيوان والطبيعة مثلًا كانت تعلّم الطفل مبدأ “لكل كائنٍ دوره“، وتغرس فيه احترام البيئة والكائنات. بينما الأحجيات التي تدور حول المكر والذكاء كانت تشجّع على الفطنة والتفكير النقدي، مثل الأحاجي التي يظهر فيها الثعلب أو الغراب كرموز للدهاء.

ولأن الأحجية تقوم على الغموض والمجاز، فهي توسّع مدارك الخيال، وتُنمّي القدرة على الربط بين الأشياء، وهو ما يُعتبر لبّ العملية التعليمية في مراحلها الأولى.

الوظيفة الاجتماعية وجسر الأجيال

إلى جانب دورها التربوي، شكّلت الأحجية وسيلة لبناء التواصل الاجتماعي. فهي تُروى في المناسبات، وتجمع بين الصغار والكبار، وبين النساء والرجال، مما يعزز روح الجماعة ويكسر حواجز الفوارق الاجتماعية.

كما كانت الأحجية أداة “آمنة” للتعبير عن الرأي والسخرية من الواقع، خصوصًا في البيئات التي يصعب فيها النقد المباشر. فبعض الحجوات حملت نقدًا اجتماعيًا مبطنًا للعادات السلبية أو للظلم، دون أن تصطدم بالأعراف. وهذا يضعها ضمن أدوات الوعي الجمعي المقاوم، الذي يعلّم المجتمع التفكير الحر دون مواجهة مباشرة.

من أجمل وظائف الأحجية أنها تربط الأجيال؛ فالأم ترويها لابنها كما روتها لها جدتها، لتستمر سلسلة الحكي بلا انقطاع. وبذلك تُحافظ الأحجية على اللغة العامية المحلية، وعلى صور الحياة السودانية القديمة، لتصبح ذاكرة شفاهية متجددة تنقل الحكمة الشعبية من جيلٍ إلى جيل.

خاتمة: نداء للعودة إلى الجذور

ليست الأحجية السودانية مجرد تراث مروي للتسلية، بل هي مؤسسة تربوية غير مكتوبة نشأت من رحم المجتمع لتعليمه وتربيته بطريقتها الخاصة. إنها تجسيد لقدرة الثقافة الشعبية على أداء وظائف التعليم والتنشئة دون أدوات رسمية، اعتمادًا على اللغة والرمز والمشاركة.

وفي زمن العولمة الرقمية، تظل الأحجية نداءً للعودة إلى الجذور، وإعادة اكتشاف الذات السودانية الأصيلة التي تعلّمت بالحكاية وتربّت على الحكمة المغلّفة باللغز.

  • #الأحجية_السودانية

  • #الحجوة

  • #التراث_الشفاهي

  • #التعليم_الشعبي

  • #تربية_الأجيال

  • #الذاكرة_السودانية

  • #مؤيد_الأمين

  • #ملف_الهدف_الثقافي

  • #الثقافة_المقاومة

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.