دروس وعبر من مسيرة شعبنا في مقاومة الطغاة

صحيفة الهدف

أ.عثمان أبوراس

يشكل التاريخ السياسي والقانوني في السودان أرشيفًا حيًّا لمعارك متواصلة من أجل ترسيخ سيادة حكم القانون واستقلال المؤسسات العدلية، وهي معارك لم تكن يومًا ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية واجهت من أجلها شخصيات مهنية وقضائية ضغوط السلطة ببسالة وضمير عام يقظ.

ففي واحدة من أبرز تلك اللحظات، اتخذ مولانا عبدالمجيد أمام موقفًا مبدئيًا حينما أمر الشرطة بعدم التعرض لموكب القضائية المندد باقتحام الثكنات الطبية والحرم الجامعي. وقد اكتسب هذا الموقف قيمته العملية حين التزم الضابط قرشي فارس بأمر القضاء، مؤكدًا بصورة لا لبس فيها أن انضباط الأجهزة النظامية تحت سلطة القضاء المستقل هو أساس الدولة الحديثة، وهو ما منح ذلك المشهد مكانته في الذاكرة القانونية السودانية.

ثم جاءت السابقة القضائية، التي أرسى دعائمها حكم المحكمة العليا برئاسة مولانا صلاح حسن بشأن عدم مشروعية حل الحزب الشيوعي، لتؤكد أن القضاء السوداني، في لحظاته الأكثر توهجًا، لم يتردد في حماية الشرعية الدستورية حتى حين كانت رياح السياسة تعصف بكل شيء من حوله.

وفي السياق ذاته، شكّلت استقالة الأستاذ الصادق شامي من منصب المدعي العام في أعقاب حركة الثاني من يوليو 1976 تعبيرًا صريحًا عن رفض توظيف العدالة لتحقيق أغراض سياسية. فقد رأى شامي أن منصبه لا يمكن أن يكون جزءًا من مسار تقوده السلطة التنفيذية بمعزل عن مقتضيات الضمير القانوني، فاختار الاستقالة على حساب الاستمرار في إجراءات لا يقتنع بعدالتها.

كما برزت شجاعة القضاء مرة أخرى عندما أصدرت محكمة الخرطوم شرق حكمًا بإدانة عناصر جهاز الأمن، الذين شاركوا في تعذيب أربعة من الناشطين—بشير حماد، عثمان الشيخ، حاتم عبدالمنعم، والجيلي عبدالكريم—بعد كشف وكر الطباعة بالفتيحاب. كان ذلك الحكم بمثابة إشارة واضحة إلى أن المؤسسة القضائية قادرة، ولو في ظروف عسيرة، على مساءلة من يعتدون باسم الدولة على حقوق المواطنين.

وعلى الطرف المقابل، جاءت تجربة قوانين سبتمبر 1983 لتقدم مثالًا مؤلمًا على تراجع استقلال القضاء حين تحوّلت الأحكام من معالجة الأفعال المجرّمة إلى محاكمة الأفكار ذاتها، وهو ما أثار وقتها موجة واسعة من الرفض الفكري والقومي شارك فيها مفكرون كبار، من بينهم د. محمد أحمد خلف الله ود. محمد عمارة، الذين نقلوا القضية من كونها محاكمة أفراد إلى مساءلة للنظام السياسي، الذي أفرز تلك المنظومة القانونية.

إن هذه اللحظات، وغيرها من محطات الوعي الجمعي مثل ليلة المتاريس وقطار عطبرة، لا تُقرأ فقط بوصفها أحداثًا تاريخية، بل كمؤشرات على أن السودانيين يمتلكون إرثًا متقدمًا في الدفاع عن استقلال مؤسساتهم كلما حاولت السلطة التنفيذية الانفراد بالمشهد.

وفي النهاية، يظل الدرس الأعمق أن مشروع بناء دولة القانون لا يتحقق بالشعارات، بل بمواقف عملية يتخذها أفراد داخل المؤسسات حين تُوضع مبادئ العدالة على المحك. وهو درس ما تزال الساحة السودانية في أمسّ الحاجة لاستعادته اليوم، أكثر من أي وقت مضى.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.