تحليل: السودان إلى أين بعد تقرير زيورخ حول انهيار العملة؟

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

لم يعد الجنيه السوداني مجرد ورقة نقدية منهكة، بل أصبح مرآة لواقعٍ منهكٍ بكامله. تقرير جامعة زيورخ لم يصف فقط حالة نقدية تقنية، بل كشف حقيقة أخطر: أن السودان يدخل مرحلة ما بعد العملة، أي حين تتحول النقود من أداة تنظيم للحياة إلى شاهدٍ على تفككها
،وهو ما تؤكده أرقام التضخم التي تجاوزت 400% ومشاهد طوابير الخبز والوقود.
في الاقتصاد، العملة ليست مجرد وسيلة تبادل، بل هي عقدٌ اجتماعيّ بين الدولة والمجتمع؛ رمزٌ للثقة والالتزام. فحين تتهاوى هذه الثقة، تسقط العملة تباعًا — لا بسبب الأرقام وحدها، بل بسبب انهيار الإحساس الجمعي بأن هناك (دولة) قادرة على الضبط والرعاية والتخطيط. ولذلك فإن ما يحدث للجنيه السوداني ليس أزمة مالية فحسب، بل علامة على انهيار المنظومة، التي تمنح المعنى للاقتصاد.
لقد تحوّل السوق الموازي إلى (المصرف المركزي الحقيقي) في السودان. كيف يعمل السوق الموازي ببساطة؟ تخيل أن البنك المركزي يحدد سعر الدولار بـ 600 جنيه، لكن التاجر الذي يستورد الأدوية لا يجد دولارًا بهذا السعر. فيضطر للذهاب إلى (السوق الموازي) حيث يشتري الدولار بـ 1000 جنيه، ثم يضيف هامش ربح وتكلفة المخاطرة على سعر الدواء. هكذا تنشأ دائرتان اقتصاديتان منفصلتان: دائرة رسمية بأرقام وهمية، وأخرى حقيقية تحكمها قوى العرض والطلب الحقيقية. والنتيجة: اقتصاد منقوص السيادة، تتحكم فيه قوى السوق غير الرسمية بقرارات كانت من اختصاص الدولة.
في الأزقة والأسواق، لم تعد الأسعار تُحدد بناءً على قرارات الدولة، بل على إشارات التجار وسماسرة العملات. فالسلطة النقدية فقدت معناها، وتحول الاقتصاد إلى مجموع مبادرات فردية تبحث عن النجاة لا عن النظام. فبينما يحدد البنك المركزي سعرًا رسميًا للدولار، يحدد سائقو التكاتك والبقالون سعرًا مختلفًا في تعاملاتهم اليومية، مما يعني أن السلطة النقدية أصبحت مشتتة بين آلاف الأفراد>
لنتخيل معًا يومًا في حياة مواطن سوداني عادي: محمد، مدرس يتقاضى 200 ألف جنيه شهريًا، يساوي راتبه في السوق الموازي حوالي 40 دولارًا فقط (تقريبًا) . بهذا المبلغ، عليه أن يختار بين شراء كيس دقيق لأسرة مكونة من ستة أفراد، أو دفع إيجار غرفة متواضعة، أو شراء دواء لأمه المريضة. أما سارة، طالبة جامعية، فتبيع شايًا في الشارع بعد محاضراتها لأن رسوم الجامعة تُدفع بالدولار، بينما دخل أسرتها بالجنيه المنهار. هذه ليست أرقامًا اقتصادية مجردة، بل معادلات حياة يومية تحطم كرامة الإنسان وتفكك النسيج الاجتماعي.
وهنا تبرز أخطر دلالات التقرير: أن المجتمع بدأ يُدير نفسه نقديًا خارج الدولة، وأن الجنيه لم يعد أداة تعامل بل رمزًا ميتًا يحمل اسم الوطن دون أن يحمل قوته. لكن هذه الأزمة ليست فقط أرقام تضخم وسعر صرف؛ إنها أزمة ثقة وطنية. العملة كانت دومًا إحدى علامات السيادة، وعندما يفقد المواطن إيمانه بها، فهو في الحقيقة يفقد إيمانه بالدولة نفسها.
يستبدل المواطن الجنيه بالدولار، لا لأنه يحب الدولار، بل لأنه يبحث عن استقرارٍ مفقودٍ في وطنٍ مأزوم. هكذا تصبح الورقة النقدية سجلًّا لانهيار العلاقة بين المواطن والدولة، بين القيمة والرمز.
التاريخ الاقتصادي العالمي يقدم لنا دروسًا ثمينة: ففي ألمانيا ما بعد الح-رب العالمية الأولى، حين وصل التضخم إلى ذروته، كان الحل ليس بإصدار عملة جديدة فحسب، بل بإصلاح النظام السياسي والاقتصادي أولاً. وكذلك زيمبابوي، التي عانت من تضخم هائل عام 2008، اضطرت لاعتماد الدولار مؤقتًا لإعادة الاستقرار، لكن الحل الحقيقي جاء بالإصلاح الزراعي والسياسي. أما الأرجنتين، فما زالت تتأرجح بين الانتعاش والانهيار لأنها تعالج الأعراض دون الجذور. هذه التجارب تؤكد أن استقرار العملة يحتاج أساسًا سياسيًا ومؤسسيًا قويًا.
ولأن الأزمة بهذا العمق، فإن المعالجات التقنية وحدها لا تكفي. لن ينقذ الجنيه مجرد إصدار جديد أو قرار إداري.
الإنقاذ يبدأ من إعادة بناء الثقة السياسية والإدارية — من إصلاح جهاز الدولة، ووقف الح-رب، وبناء اقتصاد إنتاجي حقيقي يربط القيمة بالعمل لا بالمضاربة. فالعملة لا تستمد قوتها من البنك المركزي فقط، بل من قوة المجتمع، الذي يقف خلفها، ومن كفاءة الدولة في حماية هذا العقد النفسي بين المواطن ورمزه الوطني. فكما أن المريض لا يُشفى بمسكنات الألم وحدها، فإن الاقتصاد السوداني يحتاج لعلاج جذري يبدأ بوقف النزيف السياسي والأمني قبل المعالجات النقدية.
ولكي نفهم حجم المأساة، تخيل أن معلمًا يتقاضى راتبه الشهري ولا يستطيع به شراء كيس دقيق، أو طالبًا يبيع كتبه الدراسية لشراء دواء لأهله. هذه ليست أزمة اقتصادية فحسب، بل انهيار للكرامة الإنسانية.

إن مقترح (إعادة التأسيس النقدية) الذي ورد في تقرير زيورخ — إصدار عملة مدعومة بالذهب أو الأراضي — يبدو جذابًا من الناحية التقنية، لكنه لن ينجح دون إعادة تأسيس سياسية وأخلاقية قبل أن تكون نقدية. فالذهب لا يصنع الثقة، بل الرجال والسياسات التي تحميه من العبث.
وحين يُعاد بناء الدولة على أسس شفافة، عادلة، منتجة — عندها فقط يمكن أن تولد عملة جديدة تحمل قيمة ومعنى.
لقد أصبح الجنيه اليوم رمزًا لفقدان التوازن بين الواقع والممكن، بين ما نملك وما نحلم به. ولكن في التاريخ الاقتصادي، لا تموت العملات إلا حين تموت الإرادة، ولا تُبعث إلا حين تنهض من تحت الركام روح الإنتاج والعدل.
فهل يمكن أن يتحول هذا الانهيار إلى لحظة وعي جديدة؟
ربما، إذا فهمنا أن النقد ليس أوراقًا تُطبع بل ثقة تُزرع، وأن استعادة الجنيه تعني أولًا استعادة فكرة الوطن كبيتٍ آمنٍ للاقتصاد وللإنسان.
خلاصة: السودان اليوم لا يعيش أزمة نقدية فقط، بل أزمة معنى. الجنيه فقد قيمته لأن الثقة بالدولة فقدت معناها.
والخروج من هذا النفق لا يكون بطباعة عملة جديدة، بل بوقف نزيف الدماء أولاُ، والعمل على بناء عقدٍ وطني جديد يعيد للحياة قيمتها، وللجنيه هيبته، وللسودانيين ثقتهم في أنفسهم ودولتهم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.