كتبه: مجدي علي
لم يكن كثيرون يتخيّلون أن الرجل الذي تصدّر لوائح الإره-اب الأمريكية باسم “أبو محمد الجولاني” سيصبح بعد عقدين من الح-رب رئيسًا انتقاليًا لسوريا، ويتحدث في البيت الأبيض عن مصالح مشتركة، وسلام إقليمي، وإعادة بناء جيش وطني جديد. لكن دراما الشرق الأوسط نادرًا ما تسير وفق السيناريو المتوقع، وغالبًا ما تُكتب بين صفحات السجون، والممرات الاستخباراتية، والحدود الممزقة بين الدول، وهنا يبدأ أكثر جوانب قصة أحمد الشرع إثارة للريبة: سنواته في معسكر بوكا.
دخل الشرع إلى العراق شابًا في أوائل العشرينيات ليقاتل الأمريكيين بعد غزوهم للعراق في 2003. وهناك انتهى به المطاف إلى سجن بوكا؛ المكان الذي خرجت منه قيادات داعش والقاعدة، من البغدادي إلى كبار شرعيي التنظيمات المت-طرفة. لم يكن بوكا مجرد معتقل، بل كان، بحسب مسؤولين أمريكيين بارزين، “المعمل غير المقصود” لإنتاج أكثر الجماعات راديكالية ووحشية. خرج منه الشرع مثل غيره، لكن مساره اللاحق ترك أسئلة كثيرة بلا إجابة: كيف تحوّل ذلك الشاب المتشدّد إلى قائد “جبهة النصرة”، ثم زعيم “هيئة تحرير الشام” ذات التوجّه المحلي، ثم إلى رجل دولة يتحدث لغة الدبلوماسية الغربية؟ ما الذي حدث خلال سنوات الاعتقال؟ ومن صاغ وعيه الجديد؟
هذه الأسئلة ليست مجرد ظنون، بل جزء من شكوك عميقة في الوعي السوري والعالمي، ترى أن “منتجات بوكا” نادرًا ما تتحرك خارج هامش الدور المرسوم لها.
من القومية إلى إدلب
خلفية الشرع العائلية لعبت دورًا أيضًا في تشكيل وعيه. والده كان ناشطًا قوميًّا، وعلّمه مفاهيم الانتماء القومي، لكن يبدو أنها قد فهمها على طريقته ووفق منظوره الخاص، مزجها مع التجربة الجهادية والانخراط في الح-روب الإقليمية، لتصبح قاعدة للتبرير السياسي والديني لأفعاله لاحقًا. هذا المزيج من النشأة القومية والفكر الجهادي ساهم في بناء شخصية مركبة، قادرة على الانتقال من القيادة الميدانية إلى الإدارة المدنية والسياسية، مع الحفاظ على نفوذ قوي داخل مناطق سيطرته.
بعد خروجه من بوكا، قات-ل الشرع في سوريا بدعم من البغدادي، وأسّس جبهة النصرة، ثم فك الارتباط عن القاعدة عام 2016، وأسس مشروعًا محليًا يركز على الحكم المدني في إدلب. تحوّلت جماعته إلى كيان “سياسي عسكري”، يسعى لضبط المنطقة وتقديم الخدمات الأساسية، وهو ما أثار الريبة حول نواياه: انفتاح على المجتمع المدني بعيدًا عن خطاب الجهاد العالمي، ضبط أمني صارم، وتحجيم الجيوب المتشددة، واتصالات سرية مع قوى إقليمية ودولية. السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان هذا التحوّل نتيجة إرادته أم خطة دولية لرجل مقبول عالميًا؟
في خطوة مثيرة للجدل، رفعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات عن الشرع، وشطب مجلس الأمن اسمه من قوائم الإره-اب، رغم سجله كمؤسس جماعات إرهابي-ة. هذا القرار منحه غطاءً دوليًا للتفاوض مع الغرب، وعكس حرصًا ظاهريًا على استقرار سوريا بعد انهيار النظام السابق. لكن الخصوم المحليين والإقليميين ما زالوا يشككون في استقلالية الشرع، ويرونه مرتبطًا بتوجهات الغرب أكثر مما يمثل إرادة وطنية صافية.
في ديسمبر 2024، انهار نظام الأسد بعد هجوم خاطف قادته قوى متحالفة تحت قيادة الشرع، ليصبح الرجل الذي كانت واشنطن تصفه سابقًا بالإره-ابي الخطير، الذي رصدت ملايين الدولارات لمن يساعد في القاء القبض عليه، “الخيار الوحيد” لمنع سوريا من السقوط في الفوضى، أو هكذا ترى فيه الولايات المتحدة وأوروبا صمام الأمان لمنع عودة داعش، وضبط نفوذ الفصائل المسلحة، وتحجيم النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، وفتح مجالها الجوى وأراضيها للقصف الاس-رائيلي وحرية الحركة، التي تتجاوز هضبة الجولان إلى سهولها . لكن المخاطر ما زالت قائمة، حتى من جانب المق-اتلن السابقين، ما دفع المبعوث الأمريكي توم باراك للتحذير من محاولة اغتي-ال محتملة تستهدفه.
في مقابلاته مع “واشنطن بوست”، قدّم الشرع نفسه كمنفّذ مشاريع لإعادة إعمار سوريا، وتنمية اقتصادها، وإعادة إدماجها في النظام الدولي، وبناء جيش طوعي جديد، وإقامة علاقات استراتيجية مع الغرب والسعودية. لكن التاريخ يبقى حاضرًا: الرجل قات-ل الأمريكيين، تحالف مع القاعدة، وكان يهيئهم بعد تحرير دمشق إلى تحرير القدس، وأدار جهازًا أمنيًا شديد القوة في إدلب. هذا التحوّل الكبير يطرح سؤالًا مشروعًا: هل نحن أمام مراجعة فكرية حقيقية لا تتضمن الموقف من “اسرائيل “، أم أمام إعادة إنتاج رجل مدرّب على المراحل الدولية وفق المشيئة والمعايير الأمريكية؟
قصة الشرع ليست مجرد سيرة فرد، بل مرآة للتحولات الدرامية في الشرق الأوسط: من السجن إلى الرئاسة، ومن رصاص الجهاديين إلى بدلة السياسيين والحوارات المتلفزة بعناية. رفع العقوبات عنه يضيف طبقة من الغموض. هل هو صمام أمان سوريا ما بعد الأسد فقط في نظر الغرب، أم بداية صفحة جديدة لسوريا، صفحة يمثل فيها الشرع الأداة الجديدة لتحكّم القوى الدولية من سوريا كنقطة ارتكاز علي المنطقة. وفق المعايير المزدوجة.
الإجابات ما تزال في الملفات السرية.. تمامًا كما بقيت أسرار “بوكا” طي الغموض حتى اليوم.

Leave a Reply