أحمد خالد أبو قرجة
أمتع نفسي بالدهشة، ولكن بعض الدهشات تجيء من باب الغيظ لا الإعجاب.
نحن أمةٌ أنجبت وردي، الإمبراطور الذي جعل الفن طريقًا للوعي والكرامة، فحوّل القصيدة إلى سلاح، واللحن إلى رايةٍ تعلو في وجه الظلم. حين كان يغني “الطير المهاجر”، كانت الحناجر تهاجر معه نحو وطنٍ أجمل. وحين قال “أصبح الصبح”، كانت الأغاني تُشعل الشوارع، لا تُضحك الناس على أنفسهم.
ثم جاء زمن “بتاع فنيلتك”.. زمن الميوعة الفنية والضحالة المقنّعة بـ”التريند”، حيث تتحول التفاهة إلى بطولة، والسطحية إلى مشهدٍ يوميٍّ يقتات على السخرية الرخيصة. “بتاع فنيلتك” ليس فنانًا بالمعنى الذي نعرفه؛ هو مجرد ظاهرةٍ صوتية وبصرية تجمع بين قلّة الحيلة وكثرة الضوضاء. يبيع لنا ابتذالًا مغلفًا بروح الدعابة، ويظن أن ضحكتنا عليه إعجابٌ به.
كان وردي يقف على المسرح كأنه على منصة التاريخ، يرتدي القصيدة لا “الفنيلة”، ويغنّي من وعيه لا من موضةٍ زائلة. كان صوته ميثاقًا وذاكرة، لا صدى “ترندٍ” عابر في تطبيقٍ يطحن الوعي كما تطحن المطحنة القمح الرديء. أمّا “بتاع فنيلتك”، فيكفيه عنوانه دلالةً على المرحلة: مرحلة “السطح المدهون بالضحك” الذي لا عمق تحته.
بين الإمبراطور وبتاع فنيلتك مسافةُ عمرٍ من الذوق والوعي والسقوط. الأول صنع وجدانًا جمع الأمة، والثاني صنع مشهدًا يثير الشفقة أكثر مما يثير الضحك. في زمن وردي كان الجمهور يخرج من الحفل أكثر وطنيةً وكرامة، وفي زمن “فنيلتك” يخرج المتابع أقل ذوقًا وأكثر فراغًا.
الفن يا سادة، ليس زجاجة “موية غازية” تُرمى بعد أول رشفة، بل هو ذاكرةٌ باقية. ومن وردي إلى “بتاع فنيلتك” نعرف كم تراجع الذوق، وكم هُزمت القيم أمام تسونامي التفاهة. ومع ذلك، ما يزال في الناس من يميّز الذهب من الصفيح، والصوت من الصراخ، والفن من الفوضى.
فليضحك “بتاع فنيلتك” كما يشاء، فالإمبراطور باقٍ في ذاكرة الأمة، أمّا هو فمجرد فقرةٍ عابرةٍ في تاريخ السخرية السودانية.
#ملف_الهدف_الثقافي #وردي_الإمبراطور #بتاع_فنيلتك #تسونامي_التفاهة #الفن_رسالة_وذاكرة #النقد_الثقافي #الذوق_العام #وردي_خالد_أبو_قرجة

Leave a Reply