سلسلة مقالات: ثقافة السلام في زمن الحرب الدائمة (من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)

صحيفة الهدف

تأتي سلسلة مقالات (ثقافة السلام في زمن الح-رب الدائمة: من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)، في سياق السعي إلى إعادة تعريف معنى السلام كفعل وعي ومقاومة، لا كاستراحة بين حرب-ين؛ وفي محاولة لاستعادة إنسانيةٍ تتآكل تحت ركام العنف، وإحياء صوت العقل في زمنٍ صار فيه الصمت لغة الخوف. فإذا كانت التعددية هي شكل السلام في الاجتماع، فإن الذاكرة الجمعية هي روحه في الوعي، لأنها الجسر بين ما كنا وما يمكن أن نكون. تناول المقال السابق: التعددية كخيار استراتيجي: من عبء الاختلاف إلى ثراء التنوع، أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمّل: الذاكرة الجمعية: من جرح الذاكرة إلى حكمة الاعتراف.
(5 – 9)
الذاكرة الجمعية: من جرح الذاكرة إلى حكمة الاعتراف
(الذاكرة ليست خزانة للماضي، بل بوصلة للحاضر وميزانٌ للمستقبل)

 

في كل أمة لحظةٌ تواجه فيها مرآتها. تنظر في أعماقها فترى وجوهاً من نور وظلالاً من دمٍ ودمع. هناك تدرك أن الذاكرة ليست ترفاً عاطفياً، بل امتحانٌ أخلاقي، وأن الشعوب التي لا تواجه ذاكرتها، تُعيد إنتاج مآسيها بأسماءٍ جديدة.
الذاكرة الجمعية ليست أرشيفاً من الأحداث بل كيانٌ حيّ، يضج بالأسئلة: من نحن؟ ومن ظلمنا؟ ومن ظلمناه؟ إنها ضمير الوطن والأمة حين تصمت، وصوتها حين يُراد لها أن تنسى. لكنها أيضاً عبء، إذ كيف نحملها دون أن نحترق بثقلها؟
النسيان قد يبدو راحةً، لكنه راحة الموتى، أما التذكّر الأعمى فيحول الحاضر إلى رهينة الماضي. بين نسيانٍ يخون وتذكّرٍ يؤذي، يولد ما يمكن أن نسميه (الذاكرة الحكيم)، تلك التي لا تمحو ولا تثأر، بل تفهم وتتعلم.
الذاكرة الحكيمة لا تطلب منّا أن نغفر سريعاً، بل أن نفهم بعمق. أن نحول الألم إلى وعي، لا إلى انتقام.
أن نستخرج من الجرح معنى، لا لعنات.
إنها الذاكرة التي تبني السلام لا على النسيان، بل على الاعتراف، وعلى عدالةٍ لا تبحث عن القصاص وحده، بل عن الحقيقة. فالمجتمعات لا تشفى بالانتقام، بل بالصدق. ولجان الحقيقة ليست محاكم، بل طقوس اعتراف جماعيّ بأن ما جرى كان خطأ إنسانياً لا يجوز تكراره.
الذاكرة الجمعية حين تنضج، تتحول من ساحة ح-رب إلى جسر للعبور. تصبح مدرسة للضمير الجمعي، حيث يتعلم الناس أن العدالة ليست انتقاماً من الماضي، بل حمايةٌ للمستقبل.
في عالمٍ يزداد انقساماً، يصبح التذكر فعل مقاومة، والنسيان تواطؤاً. فلا سلام بلا مواجهة الذاكرة، ولا مصالحة بلا اعتراف متبادل بالألم. من لا يتذكر، يعيد ارتكاب الج-ريمة نفسها بأسماءٍ جديدة.
وهذه المعادلة الأخلاقية ليست نظرية مجردة، بل تتحقق في بوتقات المعاناة الحية، وفي السودان اليوم، حيث تختلط الدماء بالذاكرة، يصبح استحضار الماضي ليس استدعاءً للوجع بل تأسيسًا لوعيٍ جديد. فالذاكرة السودانية تحمل مزيجًا من النضال والخذلان، من الثورة والألم، لكنها تظل الوعاء الأعمق للهوية الوطنية. إن تحويل هذه الذاكرة من جرحٍ مفتوح إلى طاقةٍ للبناء هو الشرط الأول لسلامٍ حقيقي — سلامٍ يقوم على الحقيقة لا على الإنكار، وعلى العدالة لا على النسيان. فحين يتصالح السوداني مع ذاكرته، يتصالح الوطن مع نفسه، وتبدأ رحلة الشفاء الجمعي من بين ركام الح-رب نحو ضوء الإنسانية المشتركة. ولعل ما يعيشه السودان ليس استثناءً، بل مرآة لذاكرة عربية ممزقة تبحث عن سردية جديدة تتجاوز الح-روب والانقسامات نحو وعيٍ جمعيٍّ جديد، يصالح الأمة مع نفسها قبل أن تصالح الآخرين.
لكن الحكمة لا تكفي وحدها ما لم تُترجم إلى مؤسسات حية وسياسات عادلة. وهذا التحول من الجرح إلى الطاقة يحتاج إلى آليات ملموسة: حوارات وطنية صادقة، وتاريخ يكتب بجميع أصواته، وفنون تروي ما تعجز عنه التقارير.
كما أن الشجرة القوية لا تخجل من جذورها حتى وإن امتدت في الطين، كذلك الأمم، التي تنشد النهضة لا تتهرب من ماضيها، بل تُنقيه بالفهم.
فالذاكرة ليست لعنَةً حين نحسن الإصغاء إليها، بل نعمةٌ حين نحولها من مرآةٍ للدم إلى مرآةٍ للنور.
إنّ شفاء الأمم لا يبدأ بالعفو ولا بالعقاب، بل بالحقيقة — تلك الكلمة البسيطة،، التي تقف في وجه الزمن لتقول: لقد تألمنا، لكننا تعلمنا. فالذاكرة الجمعية، في النهاية، ليست حملاً نتحمله، بل حكمة نصنعها. وليست قيداً يربطنا بالماضي، بل جناحاً يحملنا إلى مستقبل أكثر إنسانية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.