في الذكرى التاسعة لتكريمه.. الرمز الصحفي عبدالله رزق لـ”الهدف”:

صحيفة الهدف
  • الصمود أمام تقلبات السلطة والإغراءات يعود لـ “الشغف بالصحافة” و”وعي جدل السياسي والمهني”
  • الكتابة موقف.. والصحافة الحقيقية لا تحيا إلا في مجتمع ديمقراطي
  • “المصداقية مقابل الثقة” هي شكل العهد بين الصحافي والمتلقي.
  • الصحفيون بين التشرد و”مشاريع استشهاد” ويعملون في ظروف قاسية وغير مواتية
  • الدمار الهائل الذي عمّ البلاد شرد أغلبية الصحفيين
  • جراب الرأي” وُلد لنقد الإسلاميين واكتسب سمعة بفضل تعرية إيديولوجيا الإسلام السياسي

تستضيف “الهدف” اليوم صوتًا صحفيًا قديرًا، هو الأستاذ عبد الله رزق أبو سيمازة، أحد أبرز رموز الصحافة السودانية الحديثة، الذي امتدت مسيرته المهنية لأربعة عقود، محفوفة بالشغف والتحدي. يُعرف الأستاذ عبد الله رزق بمواقفه الثابتة والواضحة تجاه قضايا الحريات، الديمقراطية، والسلام، عبر تقلبات الأنظمة المتعاقبة.

من خلال عموده النقدي الشهير جراب الرأيإلى إصداراته الثقافية والتوثيقية الأخيرة، يمثل الأستاذ رزق نموذجًا للصحفي الذي يرى أن الكتابة موقف“. في هذا الحوار، نغوص في تجربته الصحفية العميقة، ونستكشف كيف صمدت مهنيته أمام الضغوط، وكيف يرى واقع الصحافة السودانية المتأزم في زمن الح.رب، وصولاً إلى الدور المنوط بالمثقفين والإعلاميين لإعادة بناء خطاب وطني مضاد للعنف.

 حوار: عبد المنعم مختار

 أنت من الأصوات القليلة التي حافظت على اتساق موقفها مع قضايا الحريات والديمقراطية والسلام، عبر كل الأنظمة — ما الذي جعل عبدالله رزق يصمد أمام تقلبات السلطة والإغراءات والضغوط، طوال هذه العقود؟

ربما يعود بعض ذلك إلى شيء ذاتي، إلى تكويني الثقافي، بجانب عوامل موضوعية. ففي البدء كان ثمة ما يمكن وصفه بـالشغف بالصحافة. أذكر أنني أصدرت جريدة حائط في مطلع عام 1970، وأنا تلميذ في مدرسة النهود الأميرية الوسطى. كانت تحمل اسم “وحدة العرب”. بدأت علمية، ثم تحولت للسياسة. ثم كان تفتّح الوعي، في ذلك الوقت، وتجسده في الالتحاق بـجمعية أنصار الثورة الفلس.طين.ية التي كانت إحدى واجهات تنظيمات الاشتراكيين العرب، التي كانت بدورها واجهة البعثيين.

تشترط الصحافة مهارة الكتابة. غير أن مهارة الكتابة، حسب جين أوستن، تتطلب قارئًا غير عادي. كان عليّ أن أتدرع بكل تلك الاشتراطات والالتزامات، بما في ذلك وعي جدل السياسي والمهني، لكي أجد موطأ قدم في بلاط صاحبة الجلالة، بعد حين. وقد عبّر الزميل بهرام عبدالمنعم، خلال تغطيته للتكريم الإسفيري، عن هذه الجزئية الأخيرة، بقوله: “(ورغم انتماء الرجل السياسي الواضح إلا أن المسألة لم تؤثر فيه قيد أنملة)”.

الصحافة والحرية، كهاتين، كالسبابة والوسطى المتجاورتين، في تضامنهما، وهما يصنعان علامة النصر، إذا جاز استعارة المثل النبوي. الصحافيون مكانهم في مقدمة المدافعين عن الحريات، بينما هم يدافعون عن المهنة، وجوهرها الماثل في حرية التعبير. لذلك لا تكون الصحافة الحقيقية، ولا تحيا، إلا في مجتمع ديمقراطي، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

الإخلاص للصحافة ورسالتها، يقضي بالدفاع عن الحريات الديمقراطية، والاستقلال عن السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، كسلطة رابعة، تقوم بمراقبة السلطات الأخرى، والقوى النافذة في المجتمع، ومساءلتها، وتمكين الشعب من المشاركة في صناعة مصائره من خلال تزويده بالمعلومات الصحيحة.

من الطبيعي، في ظروف العالم الثالث، ومنه بلادنا، أن لا تتحقق تلك القيم، جزئيًا أو كليًا، دون صراع ودون نضال، خاصة في ظروف الأنظمة الديكتاتورية، التي تنهض على قواعد مصادرة الحريات والقمع والكبت.

المصداقية مقابل الثقة، هي شكل العهد القائم بين الصحافي والمتلقي، والذي يحدد، إلى مدى بعيد، أمانته في حمل مسؤولية رسالة التنوير. وهي قد تتطلب قدرًا من التضحية وشيئًا من المعاناة، لكنه لا غنى عنها. ولعل وصف الصحافة بـ”مهنة المتاعب” لا يخلو من الكثير من الصدق.

الكتابة موقف، أولاً وآخراً. وعلى الكاتب أن يتحمل مسؤولية فعله وما يترتب عليه: “سجن، سجن. غرامة، غرامة!”.

كيف ترى واقع الصحافة السودانية اليوم في ظل الح.رب، وهل تعتقدون أن الصحفيين نجحوا في أن يكونوا صوتاً للحقيقة أم أُجبروا على الاصطفاف خلف أحد الأطراف؟

الح.رب الحالية تجربة جديدة للصحافة والصحفيين، على الرغم من أن ميلاد السودان الحديث، قد تزامن مع انطلاق أول رصاصة في أول ح.رب أهلية في جنوبه، وأن تاريخه منذ ذلك الحين يكاد يكون تاريخًا للح.روب في ربوعه، إلا أن الح.رب الأخيرة، الحالية، تمثل تجربة مختلفة.

فقد بدأت من العاصمة قلب البلاد ومركزها، ثم عمّت أقاليمه، بهذا القدر أو ذاك، بدءًا من الغرب، خلافًا لبقية حروب السودان الأخرى، وأحدثت دمارًا شاملًا وهائلاً في كل شيء، ودفعت بغالب أهله إلى التشرد أو الموت

ولم يكن الصحفيون، ولا المؤسسات الصحفية استثناءً من التدمير الجاري، مما كان له عظيم الأثر في قدرة الصحافة والصحفيين على تغطية هذا الأمر الجلل، تغطية حية ومفصلة.

ورغم ما نابهم من ق.تل وأسر واعتقال واختطاف، وتشرد بين مراكز الإيواء ومواطن اللجوء، فقد عملوا، وضمن ظروف غير مواتية كليًا، على القيام بمهامهم وواجباتهم المهنية والوطنية، في كشف حقائق الح.رب البشعة، وعكس معاناة المواطنين، عبر مختلف الوسائط الإعلامية، خاصة الرقمية، التي حلت محل الصحف الورقية، بالذات، في النهوض بالرسالة الإعلامية.

أغلبية الصحفيين اضطروا للتشرد بين الملاجئ ومراكز الإيواء، ومن تبقى منهم داخل الوطن، في مناطق سيطرة هذا الطرف أو ذاك، من طرفي الح.رب، هم مشاريع استشهاد، يعملون في ظروف قاسية وغير مواتية، أقلها ضعف خدمات الهاتف والإنترنت والكهرباء، أو انعدامها.

عمودك الشهير «جراب الرأي» ظل مساحة للرأي الجريء والموقف النقدي — ما الذي كان وراء اختيار هذا العنوان؟ وكيف ترى أثره في تشكيل وعي القارئ السوداني، ما الذي يميزه عن عمودك الآخر “فاصل موسيقى”؟

جراب الرأي، هو لقب أطلقه الخليفة عبدالله التعايشي، على شقيقه، الأمير يعقوب. ولأن الصحيفة التي وُلِد على صفحاتها العمود، كان اسمها “الرأي الآخر”، فقد حمل اسم العمود شيئًا من اسم الصحيفة.

وقد اكتسب سمعة، بفضل انطلاقه من نقد الإسلاميين، في ظل حكمهم تحت لافتة الإنقاذ. ولما عمل الإنقاذيون، من باب التمويه، على إنكار أي صلة لهم بحزب الجبهة الإسلامية القومية الذي دبر انقلاب 30 يونيو 1989، فقد وفّر ذلك أرضية مناسبة للعمود لانتقاد حزب الجبهة بلا هوادة، وتعرية إيديولوجيا الإسلام السياسي.

أذكر، في هذا السياق، أن الأستاذ غازي سليمان المحامي، عليه رحمة الله، قد بدأ بكتابة مقالات جريئة، من المنطلق نفسه، في الجريدة، يدعو فيها قائد الانقلاب، عمر البشير، للتخلص من الجبهة الإسلامية.

وقد استمر العمود، بشكل يومي طوال فترة عملي في “الرأي الآخر”، وانتقل معي، بعد إيقاف “الرأي الآخر” لبعض الوقت، إلى جريدة “الصحافة”، وتوقف نهائيًا عام 2000 عندما قام أحدهم بتسجيل اسم العمود في المصنفات، ورفع دعوى ضدي. غير أن المحكمة علّقت الدعوى لتغيُّب الشاكي عن الحضور.

بجانب “جراب الرأي”، العمود اليومي، كنت أكتب عمودًا أسبوعيًا، في أخيرة جريدة “الصحافة”، ذا طابع ثقافي تحت عنوان فاصل موسيقى، وهو مستعار من فعالية فنية، موسيقية أو درامية، تتوسط احتفالًا أو عرضًا مسرحيًا.

وقد وجدت في الفترة الأخيرة تشجيعًا من عديد من الزملاء من أجل إعادة نشر موضوعات “جراب الرأي” في كتاب.

هنالك من يعتقد أن عبدالله رزق أبو سيمازة، بتنقله بين العديد من أبرز الصحف السودانية، لأسباب متعددة، ليتك تعددها، ومنها التي تصدر باللغة الإنجليزية، نحلة الحكمة، ما عصارة هذا التنقل، في مشرق الصحافة الحديثة، باستعارة شطر من عنوان مبحثك القيّم الذي دُشّن مؤخراً؟

للصحافة بنية هشة، سريعة العطب، لذلك كانت عرضة للتوقف، خلال سنوات الإنقاذ لكثير من الأسباب، يأتي في مقدمتها التمويل، وعدم رضا السلطات عنها. لكن الجريدة يمكن أن تتوقف لأسباب خارجها، كخلاف داخل نادٍ رياضي أو داخل الحزب أو مجلس الإدارة، مثلاً.

ووصل الصحفيون إلى قناعة بأن التنقل من صحيفة إلى أخرى، في ظل ضعف الدخول، هو السبيل الوحيد لتحسين أجورهم.

لكن هذا التنقل، من ناحية أخرى، يتيح للفرد فرصة معايشة تجربة مختلفة واكتساب مزيد من الخبرات.

من ذلك، أن في صحيفة ذا سيتيزين، الإنجليزية، التي قضيت واحدًا وعشرين شهرًا على رئاسة تحريرها، حظيت بزيارات ولقاءات العديد من الدبلوماسيين الغربيين، كوسط تَلَقٍ نوعي، في مقدمتهم سفراء إيطاليا وألمانيا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا وكوريا والنرويج، والقائم بالأعمال الأمريكي وغيرهم، الذين أبدوا إعجابهم بالصحيفة وخطها التحريري.

تتلمذ على يديك عدد كبير من الصحفيين الذين أصبحوا اليوم أعمدة في المهنة — ما أهم القيم التي حرصتم على غرسها فيهم؟ وهل الجيل الجديد قادر على حمل راية الصحافة؟

تعتبر الأخلاق المهنية، ممارستها والتقيد بأحكامها، خلال السلوك اليومي في إطار أداء الصحفي لمهامه وواجبه، حجر الزاوية في العمل الصحفي.

وتضع مواثيق العمل الصحفي قواعد صارمة من أجل ضمان نزاهة الصحفي خلال أدائه لمهامه. على الصحفي أن يُلزم نفسه بها. في المقدمة منها، استقلاليته من أي مؤثرات يمكن أن تقدح في مهنيته، وعدم السعي للحصول على منفعة مقابل عمله مع الجهات التي يقوم بتغطيتها.

غير أن العمل الصحفي نفسه، عمل إبداعي، ويتسع للخلق والابتكار، وليس روتينًا واجب الإتباع. من المهم أن يسعى الصحفي لترك بصمته في هذا الصرح الكبير من خلال الإضافة، ومن خلال بناء تجربته الخاصة في العمل، والتي تفيده في تكوين رصيد معرفي يستند عليه وعلى تراكمه.

ويعتمد العمل على المعرفة الوثيقة بقواعد العمل الصحفي وفنونه، ويقتضي التخصص، ومع ذلك فإن من المهم أن يتوفر الصحفي على ثقافة موسوعية.

أنت من الداعين بوضوح لوقف الح.رب ورفض منطق السلاح — كيف يمكن للإعلام والمثقفين أن يسهموا فعلياً في بناء خطاب وطني مضاد للح.رب، أسبابها وإفرازاتها، يعيد للمجتمع توازنه واستقراره؟

تفرض الح.رب على الصحفيين مهام إضافية تتمثل في:

  • مناهضة خطاب الكراهية الذي يغذي الح.رب.
  • الدعوة لوقف الح.رب وإحلال السلام.
  • الدفاع عن وحدة البلاد في مواجهة مخاطر التقسيم التي تفرزها الح.رب.
  • إدارة الحوارات البناءة حول قضايا السلام والحرية والعدالة، للمساهمة في بلورة مشروع وطني به تنهض البلاد من كبوتها.

صدر لك مؤخّراً كتابان، بعنوانَي «بعض الرحيق: الخرطوم تكتب وتلعب بالتراب» و«مشرق الصحافة السودانية التقليدية»، وأُقيم حفل تدشين أحدهما بالقاهرة بحضور ناجح — هلّا حدّثتمونا عن هذين العملين، وما الذي دفعكم للانتقال من المقال الصحفي إلى صيغة الكتاب الثقافي-التوثيقي؟ وما دلالة هذا الانتقال في مسيرتكم؟

حرصت دائمًا على تطوير قدراتي وتجاربي في الكتابة، منذ أن احترفت الصحافة، قبل أربعين عامًا.

وقد تجلى هذا الحرص في العناية بما أكتبه من نصوص، جعل من الممكن إعادة نشرها في كتب مرة أخرى، بما تنطوي عليه من قيمة فكرية، تتجاوز قيمتها الآنية، السياسية.

آثرنا قبل الختام أن يستفيض أبو سيمازة حول السؤال: من هو عبدالله رزق وماذا يريد؟

أنا إنسان بسيط، بطموحات بسيطة ومتواضعة، لا تتعدى أن أحيا مفيدًا ونافعًا للناس، قدر ما أستطيع، في وقت لا تتعدى استطاعتي حدود ما يمكن أن يفعله القلم.

وقد لاحظت بكثير من الغبطة، خلال أكثر من مناسبة، تعابير الامتنان تجاه مجهوداتي المتواضعة في هذا المجال.

ومن ذلك قيام عدد من تلامذتي وتلميذاتي بابتكار تكريم إسفيري لي تحت عنوان “اليوم العالمي للصحفي عبدالله رزق”، يصادف اليوم، 13 نوفمبر، ذكراه التاسعة، أعقبه تكريم آخر من شبكة الصحفيين.

أنا شاكر وجدّ ممنون، أيضًا، لكل ذلك، وأسأل الله أن يجعلني، أبدًا، بحجم توقع الآخرين، وحسن ظنهم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.