الزراعة بين الخام وضياع القيمة المضافة: الصمغ العربي… كنز السودان المهدر

صحيفة الهدف

عبد المنعم مختار

في بلدٍ تتعدد فيه المناخات من الاستوائي إلى الصحراوي، وتتنوع تُربُه بين الطينية السوداء والرملية، وتترامى فيه السهول والوديان، يمتلك الس.ودان ثروةً زراعيةً قلّ أن تتكرر في بقعةٍ أخرى من العالم. من القطن طويل التيلة إلى السمسم والفول الس.وداني، ومن الصمغ العربي إلى الكركديه والقمح والذرة، تتوزع المحاصيل النقدية كخرائط للذهب الأخضر على امتداد الوطن، من القضارف إلى الجزيرة، ومن كردفان إلى دارفور، ومن النيل الأزرق حتى أقصى الشمالية.

ورغم هذا التنوع المذهل، ظل الس.ودان لسنواتٍ طويلةٍ يصدّر منتجاته الزراعية في صورتها الخام، دون أن يخطو الخطوة الأهم نحو التصنيع الزراعي الذي يضاعف القيمة، ويوفر فرص العمل، ويدعم الميزان التجاري، ويمنح الاقتصاد الوطني استقلاليةً حقيقية. فكم من طنٍ من السمسم أو القطن أو الفول الس.وداني غادر الموانئ الس.ودانية دون أن يتحول إلى زيتٍ أو نسيجٍ أو منتجٍ غذائي يحمل ختم “صُنع في الس.ودان”!

إن هذه السلسلة من المقالات تأتي لفتح ملف الزراعة في الس.ودان، بشقّيها النباتي والحيواني، من خلال قراءةٍ علميةٍ واقعيةٍ تسلط الضوء على:

  • مناطق زراعة وإنتاج كل محصول أو قطاع.
  • موقع الس.ودان في خريطة الإنتاج العالمية.
  • التحديات التي تواجه زيادة الإنتاج والتصدير.
  • مشكلات التسويق والترحيل والطلب الخارجي.
  • الأسباب التي تجعلنا نصدر موادنا الخام دون تصنيع.

كما نحاول أن نُبرز كيف يمكن للتصنيع الزراعي أن يغيّر المعادلة اقتصادياً واجتماعياً، عبر زيادة الأرباح، وتوسيع فرص العمل، وتوفير العملة الصعبة، وترسيخ مفهوم الاعتماد على الذات.

وسنتناول في كل حلقةٍ محصولًا نقدياً أو قطاعاً زراعياً رئيسياً، ندرس من خلاله المعوقات ونقترح الحلول، مؤمنين بأن الزراعة ليست مجرد نشاطٍ اقتصادي، بل هي قضية سيادة وطنية واستقلال اقتصادي.

أولًا: الصمغ العربي..

رغم أن الس.ودان يمتلك نحو 80% من الإنتاج العالمي للصمغ العربي، فإن عائداته ما تزال محدودة ولا تعكس القيمة الحقيقية لهذا المورد الاستراتيجي، الذي يُعد من أكثر السلع الطبيعية طلباً في الصناعات الغذائية والدوائية وحتى الميكانيكية.

إشكالات في الإنتاج والبيئة

يتعرض قطاع الصمغ العربي لتدهورٍ مستمر نتيجة الإهمال الحكومي والتغوّل الزراعي على الغابات، إلى جانب موجات الجفاف والقطع الجائر لأشجار الهشاب والطلح.

وقد أدى ذلك إلى انحسار مناطق الإنتاج من السهول الرملية في كردفان، التي تمتاز بجودة عالية وخبرة متراكمة لدى المنتجين، إلى المناطق الطينية قرب حدود جنوب الس.ودان، مما انعكس سلباً على جودة الصمغ وكمياته.

كما يعاني المنتجون من ضعف التمويل وغياب المعدات الحديثة في عمليات الطق والجمع والتخزين، فضلاً عن صعوبة النقل من مناطق الإنتاج إلى الموانئ، في ظل غياب بنية تحتية ملائمة.

إشكالات في التجارة والإدارة

يعاني قطاع الصمغ العربي من فوضى إدارية وسوقية منذ تفكيك شركة الصمغ العربي الحكومية التي كانت تضبط عمليات الشراء والتخزين والتصدير. فقد تم بيع أصولها ومخزونها الاستراتيجي، ففقد الس.ودان السيطرة على الأسعار وجودة المنتج.

وفي الأسواق يسود الاحتكار والوساطة، حيث يُباع الصمغ خاماً ليُعاد تصنيعه وتعبئته في أوروبا والهند والولايات المتحدة. وهناك، تصل أرباحه بعد التصنيع إلى أكثر من 15 ألف دولار للطن الواحد مقارنة بسعره الخام، في نزيفٍ حقيقي للقيمة المضافة التي كان يمكن أن يستفيد منها الاقتصاد الس.وداني.

الحلول الممكنة.. من الجذر إلى المصنع

يتطلب إصلاح هذا القطاع نهجاً تكاملياً يبدأ من المنتج الصغير وينتهي بالمصنع الوطني. ومن أبرز الخطوات المقترحة:

  • إنشاء جمعيات إنتاجية للعاملين في عمليات الطق والجمع، لتوفير أدوات حديثة ومخازن نموذجية.
  • تأسيس بورصة وطنية للصمغ العربي تنظم الأسعار وتحد من الاحتكار.
  • إنشاء مصانع وطنية للبودرة الرذاذية ومنتجات الصمغ المصنعة محلياً.
  • إعادة تفعيل المؤسسة الوطنية للصمغ العربي لتتولى الإشراف على الإنتاج والجودة والصادر.
  • دعم البحوث العلمية لاستثمار الصمغ في الصناعات الدوائية والغذائية، إذ أثبتت دراسات محلية فعاليته في علاج أمراض مثل الفشل الكلوي.

إن الصمغ العربي ليس مجرد محصولٍ زراعي، بل ثروة استراتيجية لو أحسن الس.ودان استثمارها لأصبحت ركيزةً لنهضة اقتصادية حقيقية، تُعيد للأرض ولمنتجيها قيمتهم، وتعيد للس.ودان مكانته المستحقة في أسواق العالم.

#ملف_الهدف_الاقتصادي #الصمغ_العربي #الذهب_الأخضر #التصنيع_الزراعي

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.