طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
تمثل الموارد الطبيعية القلب النابض للاقتصاد وللحياة معًا، لكنها اليوم تواجه اختبارًا وجوديًا يحدّد شكل المستقبل الإنساني ذاته. فبينما شكّلت هذه الموارد على مدى قرون أساس القوة الإنتاجية والنمو، فإنّ نمط التعامل التقليدي معها، القائم على الاستنزاف والوفرة الزائفة، قاد العالم إلى مفترقٍ خطير بين الثراء البيئي والخراب الكوكبي.
هنا يبرز مفهوم الاقتصاد الأخضر لا كخيارٍ تنموي فحسب، بل كتحوّلٍ فلسفي في فهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة: من علاقة استغلالٍ إلى علاقة شراكةٍ واستدامة.
لم يعُد النجاح يُقاس بمعدلات الإنتاج والاستهلاك، بل بقدرة النظام الاقتصادي على البقاء في توازنٍ مع محيطه الحيوي. فالاقتصاد الأخضر ليس بديلاً تقنياً للنموذج القديم، بل نقطة انعطاف في الوعي؛ إذ يتحوّل من المنطق الخطي (خُذ، اصنع، تخلّص) إلى المنطق الدائري الذي يُعيد إدماج كل ناتج في دورةٍ جديدة للحياة.
بهذا المعنى، لا تُعدّ النفايات عبئاً، بل مورداً مؤجلاً، ولا يُنظر إلى الطبيعة كمخزونٍ ناضبٍ، بل كمنظومةٍ ذكيةٍ تُعلّم الإنسان كيف يُوازن بين الأخذ والعطاء.
وتشير تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) إلى أن التحول إلى الطاقة المتجددة يمكن أن يُخفّض انبعاثات الكربون العالمية بنسبة تصل إلى 70% بحلول عام 2050، وأن تحسين كفاءة الطاقة وحده قادر على تقليص الاستهلاك العالمي بنسبة 30% دون المساس بجودة الحياة.
وفي إدارة المياه، تُظهر تطبيقات الاقتصاد الدائري قدرةً على مضاعفة كفاءة الاستخدام الزراعي من 40% إلى 80%، فيما تتيح تقنيات الزراعة الدقيقة والري الذكي خفض استهلاك المياه إلى النصف. أما في قطاع المواد الخام، فإن إعادة التدوير الشامل تُوفّر 95% من الطاقة في إنتاج الألمنيوم مقارنة بالاستخراج الأولي، و60% في صناعة الصلب، أرقامٌ تُترجم معنى “الاقتصاد الأخضر” من خطابٍ بيئي إلى منطقٍ إنتاجي.
لكنّ التحول لا يخلو من التحديات؛ فندرة الموارد وتدهور جودتها، وقدم البنية التحتية، والفجوة التكنولوجية بين الشمال والجنوب، تشكّل جداراً يحول دون تطبيق هذا النموذج بسهولة. كما أن البيروقراطية والتشريعات القديمة لا تزال تُقاس بمنطق النمو الكمي لا الكيفي، مما يجعل “التحوّل الأخضر” معركة وعيٍ بقدر ما هو معركة سياسات.
في المقابل، تفتح هذه التحولات فرصاً نوعية غير مسبوقة؛ فالتقديرات الأممية تُشير إلى إمكانية خلق نحو 24 مليون فرصة عمل جديدة في قطاعات الاقتصاد الأخضر بحلول عام 2030، وتوفير ما يقارب 3 تريليونات دولار سنوياً عبر تحسين كفاءة الموارد وتقليل الفاقد. كما تُسهم هذه التحولات في خفض التكاليف البيئية والصحية بما يقارب 40%، وهو ما يعني أن الاستدامة ليست عبئاً اقتصادياً، بل استثماراً طويل المدى في بقاء الحضارة.
النماذج العالمية تُثبت أن الفكرة ممكنة حين تتوافر الإرادة والسياسة: فالدول التي تبنّت الاقتصاد الدائري سجّلت وفوراتٍ في المواد الخام بين 25 و 30%، ومشاريع كفاءة الطاقة في الصناعة أعادت عوائد استثمارية تراوحت بين 30 و 50%، في حين أدّى تحسين إدارة المياه في المدن إلى خفض الهدر بنسبة وصلت إلى 40%.
كل ذلك يبيّن أن الاقتصاد الأخضر ليس حلم النشطاء، بل مساراً عملياً يستند إلى معادلات الجدوى لا الأمنيات. لكنّ التحول الحقيقي يتطلب إعادة تعريفٍ للمنظومة بأكملها: ابتكارٌ تكنولوجي لا ينفصل عن الأخلاق، سياساتٌ تحفيزية تُكافئ الإنتاج النظيف لا الاستهلاك المفرط، شراكاتٌ دولية لتبادل المعرفة والتقنيات، وتربيةٌ مجتمعية تُعيد الإنسان إلى وعي الاكتفاء المستنير لا الترف المدمّر.
فالاقتصاد الأخضر ليس مجرد إطارٍ لإدارة الموارد، بل رؤية حضارية جديدة ترى أن رفاه الإنسان لا يتحقق على حساب الأرض، بل معها. وهو في جوهره ليس مشروعاً بيئياً بقدر ما هو مشروعٌ إنسانيّ، يعيد تعريف النجاح على أنه قدرة المجتمع على إنتاج الثروة دون أن يُبدّد شروط الحياة ذاتها.
إنّ الأمم التي تُدير مواردها بعقلٍ أخضر، تُدير في الحقيقة مستقبلها بعقلٍ مستنير. فمن يستهلك الطبيعة حتى آخر قطرة، إنما يستهلك ذاته دون أن يدري، أما من يحافظ على توازن الحياة، فقد دخل فعلاً عصر الاقتصاد الذي يُثمر دون أن يُفني، ويُنمي دون أن يُدمّر، الاقتصاد الذي يُعيد للإنسان مكانه كحارسٍ للأرض لا كغاصبٍ لها.
#ملف_الهدف_الاقتصادي #الاقتصاد_الأخضر #الاقتصاد_الدائري #الموارد_الطبيعية

Leave a Reply