اختلاط المفاهيم وعولمة الإعلام ونظرية التدافع المصطلحي

صحيفة الهدف

بقلم الأستاذ/ جعفر أحمد جعفر

في ظل المواجهة بين الغرب والشرق التي امتدت من الحروب الصليبية إلى العصر الحديث، وبعد أن أنهى الغرب الحرب الباردة لصالحه، يعود مرة أخرى إلى المحور الرئيسي. لقد أصبح الإعلام الغربي بموجب ذلك علمًا قائمًا بذاته له مبادئه ومجالاته ومناهجه، وله مصطلحاته التي تحدد تصوراته النفعية البراغماتية. والتحكم في هذه المصطلحات يجب أن يمر عبر المخابرات والمختبرات الغربية الصهيونية، وهو مجال ثقافي معقد ومتداخل يتسم بنوع من الانتهازية السياسية والأيديولوجية.

نقول ذلك ونحن متأكدون أنه في خضم الثورة المعلوماتية والصراع الدائر بين الأفكار والحضارات، أصبح للإعلام أهمية كبرى في توجيه حركة المجتمعات. ومع وجود هذا التقدم والتطور العلمي والتقني للمعلوماتية، لا يمكن تجاهل دور الإعلام أو التغاضي عنه. ولا يخفى على أحد ما حققه الإعلام من تأثير على تكوين العقل المتلقي. يقول أحد المفكرين اليهود في عهد المركانتيلية: “من يملك الذهب يملك العالم”، أما حاليًا فـ “من يملك الإعلام يملك العالم”.

ونظرًا للمهنية العالية والتكنولوجيا المتطورة التي وظفها الغرب في الفبركة والهيلودية الراقية التي استعملها في الخداع، فقد روّج لأباطيله لتحقيق مآربه وأهدافه الاستراتيجية، ولعل أهمها حرب المصطلحات التي – للأسف – ابتلعها بعض أبناء الوطن العربي والإسلامي دون أن يمضغوها ويحوّلوها إلى جذور ثقافية عربية وإسلامية.

ومن أهم هذه المصطلحات مثلًا مصطلح “الأصولية”، وهي كلمة مترجمة ومنقولة عن الأصل اللاتيني (Fundamentalist)، وقد أطلقت بعد العصور الوسطى على المتطرفين المسيحيين، ولكن في الإسلام فإن هذا المصطلح محمود، يعني ويدل على المتمسك بأصول دينه.

ونأتي إلى مصطلح آخر، وهو مصطلح “الاستعمار”، وهي أيضًا كلمة مترجمة عن الفرنسية (Colonisation). وهذه الكلمة تعني في القاموس الفرنسي “التعمير وترقية الشعوب وتطويرها”، ولكن تعريفها في القاموس العربي هو “الاستخراب والاستدمار والاستكبار”. ومع ذلك لا نجد هذا الاستخدام في الإعلام العربي، بينما نسير وفق الإعداد الذي رُسم لنا.

ونشير أيضًا إلى مصطلح مهم، وهو مصطلح “الشرق الأوسط” (The Middle East). أول ما ظهر هذا المصطلح كان في كتابات المؤرخ العسكري الأمريكي ألفرد ثاير ماهان (Mahan)، إذ اقترح في مقال نشره في مجلة (National Review) الصادرة في لندن في أيلول عام 1902، إطلاق هذا المصطلح على المنطقة المتنازع عليها بين الروس والألمان والبريطانيين، وهي المنطقة الواقعة بين الهند والجزيرة العربية. لقد أصبح معلومًا أن مصطلح الشرق الأوسط هو أكثر من مجرد مصطلح جغرافي، فهو مصطلح سياسي واقتصادي واجتماعي يضم بين جناحيه أقوامًا من عروق شتى: عربية وتركية وفارسية، ومن أديان مختلفة، إلا أن الديانة السائدة هي الإسلام. وتمتد حدوده لتحتوي الوطن العربي ولكن بشكل مجزأ، مبتدئًا بمصر دون الشمال الإفريقي، ثم إسرائيل، وتعانق أذرعه بلداننا حتى تصل إلى أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية شمالًا. والمصطلح الأدق والأصدق هو “المنطقة العربية الإسلامية”، ولكن لا يُنطق بهذا المصطلح إطلاقًا.

أيضًا نجد من المصطلحات الزائفة مصطلح “الدول المتخلفة”. يحاول البعض إلصاق التخلف الذي تعاني منه بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية بالإسلام، ويقولون: إذا كان الإسلام في حقيقته دعوة للتقدم والحضارة وتحقيق طموحات الإنسان في حياة سعيدة ومستقرة، فلماذا يعاني المسلمون أكثر من غيرهم من الفقر والضعف والحروب والانقسام رغم الثروات الكثيرة والنعم الوافرة التي أنعم الله عليهم بها؟ ولكن نرد عليهم بأن الأمر ليس معقدًا ولا يحتاج إلى فلسفة، ففي ظل الانقسام العربي وواقعنا المتخلف، فالقضية واضحة، وهي أننا لم نعد نلتزم بتوجيهات الإسلام الذي جاء في منطقتنا، ولم نطبق منهجه في حياتنا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي، ثم نأتي بعد ذلك ونحمل الإسلام سبب أخطائنا.

ومما روج له الإعلام الغربي مصطلح “حائط المبكى” ، بزعم اليهود أنه جزء من الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف، والذي كان آخر أثر من آثار هيكل سليمان عليه السلام. وهذا تحريف وتبديل لحائط البراق قديمًا، وترجع تسميته إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب البراق حتى باب المسجد الأقصى، حيث ربط الدابة غرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد حيث صلى بالأنبياء وعُرج به إلى السماوات العلى.

وتجدر الإشارة إلى مصطلح أخير وهو “الإسلام السياسي”، وهذا المصطلح له مدلوله الأيديولوجي، إذ يروج في وسائل الإعلام أن الحكومات التي مرجعيتها الإسلام تستغل الدين مطية وذريعة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والسياسية، وهذا ما يصوره الإعلام الغربي. ولكن انظر كيف يصور الإعلام الغربي الأحزاب النصرانية التي تحكم أوروبا مثل الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا (بزعامة المستشارة ميركل)، وحزب المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول التي توجد فيها أحزاب سياسية تستمد مرجعيتها من الدين المسيحي. وعندما نراجع الواقع السياسي في منطقتنا العربية نجد أن هذا الأمر في إعلامنا العربي مستهجن، بينما تلك الأحزاب في العالم الأول تعتبر أحزابًا تقدمية.

وأخيرًا، إذا راجعنا الأحزاب السياسية مثلًا في السودان التي تستمد فكرتها من الدين الإسلامي، فسوف نجدها أكثر من الإخوان المتأسلمين، والحزب الاتحادي الأصل، وحزب الأمة القومي، وكثير من الأحزاب الموجودة في المنطقة العربية. وعندما ندلف إلى مصطلح أكاديمي مثل “العلوم الإنسانية”، نجد أنها في القاموس الفرنسي تعني العلوم التي لا تخضع لتوجيه الوحي أو الاستقاء منه في المعلومات. وانتشر هذا المصطلح في الوطن العربي، فتجد في كل جامعة عربية كلية تُسمى “الآداب والعلوم الإنسانية”، حيث لم نبحث في تراثنا ونتجنب المسميات الغربية وما تحويه من سموم. فحين جاءت هذه الألفاظ والمصطلحات البراقة والمشينة ملأت صدورًا خاوية، واعتقدتها نخبة من المثقفين أنها عين الثقافة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.