إحسان الله عثمان
كلتاهما أم ذبيح.. ومسارات جهاد بين الألم والأمل
لم تُصب فاطمة الزهراء في المدونات العالمية والإسلامية حظاً وافراً، ويتكلفون العذر لقصر حياتها – لم تتجاوز الثلاثين- ولم يلتفتوا إلى أنها عاصرت التاريخ النبوي وبداية الخلافة وما فيها من حوادث غيرت وجه التاريخ، وكان لها دور فاعل فيها مع أبيها حامل الرسالة وزوجها حامي الرسالة. ومن هنا نقف على عناية قلمية بفاطمة الزهراء لبعض المستشرقين مثل الفرنسي في دراساته عن التصوف والعرفان حيث جمع خمسمائة ألف نص عن فاطمة بكل اللغات، وكذلك القس الكاثوليكي كريستوفر كلوهسي في أطروحة “فاطمة بنت محمد: نصف شمس”.
اتجهت بوصلة البحث نحو شخصية المرأة – بعامة – وتحملها مسؤولياتها الاجتماعية وارتقائها رأس هرمية التاريخ الأنثوي في مكة ذات الحضارة الدينية. فاطمة التي هي مساق جهادي لإرساء مركب الإسلام على مسار والدتها خديجة الكبرى التي اختلجت في بيتها شرارة الدين، فكانت هي أيقونتها وفاطمة قبسها… عنوانات ترسم تضاريس البيئة التي نشأت فيها وتبين خارطة حراكها.
مريم وفاطمة: طرفا معادلة متوازنة
وكانت قبلها امرأة مشرقية هي مريم ابنة عمران: {وَإِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 42).
منبعثة لدين جديد وثورة دينية مفتاحها ولادة السيد المسيح (عليه السلام). إشارة تكمن في الرمز “نصف شمس” الذي ابتعثه “القس كريستوفر” في عنوانه، أنه تجسيد لإشراقة إيحاء ديني يستغرق نصف العالم التاريخي حتى اليوم، مختزل من الذاكرة المسيحية في مريم نصف شمس، ليكتمل الشعاع الديني في العالم.
النشيد الفاطمي: “يا عديلة مريم يا قيثارة النبي” يكاد يشف عن خيوط الترسيم الثقافي المنبعثة من وحي قلمية الكاتب سليمان كتاني لوضع معادلة الحياة الدينية التي أزهرت في حضن امرأتين: مريم وفاطمة. فهما طرفا المعادلة المتوازنة في مسارها الجهادي بين الألم والأمل. فكلتاهما أم ذبيح على عماد الإصلاح الذي رفعاه كقيمة يستلهمها مجتمعهما إلى اليوم. ففاطمة عديلة مريم في الدفاع عن مشروعها الذي اختلجته السماء، كلتاهما نافحت – بشجاعة – مجتمعاً امتاز بفرْيته الباطل؛ من أجل تجسيد قيمة الحق والعدل، فبدت مشروعية التوازن. يقول كتاني: “لقد عبق خط وصلك ببنت عمران، يا ابنة المصطفى، فتلك مريم ما فرشت الأرض إلا من نُتف الزنابق، وأنت النفحة الزهراء، ما نفت الطيب إلا مناهل الكوثر”.
فاطمة.. قيثارة النبوة والتضحية
يحمل نداء “يا قيثارة النبي” عبق التاريخ وتمثلات رمزيته، ومدى علاقة القيثارة بالألوهة وما ترشح عنها من نغمات نحو المقدس. ولعل دلالة فاطمة قيثارة النبي تؤشر رحيق النبوة وصوتها الصادح في أروقة الحياة الدينية. وتشير إلى حياتها مع أبيها حيث رضعت من شفاهه رشفات النبوة والتصقت به حتى كانت خاصرته التي يتألم لوجعها. وتشير من جهة أخرى إلى تكريس حياتها على مسار النبوة، فقد قدمت التضحيات الجسيمة، أدلها أنها قدمت للفداء بين يدي أبيها نفسها وزوجها وبين يديها ولداها الحسن والحسين في ميدان المباهلة مع مسيحي نجران ورهبانهم، تلبية لنداء المقدس:
فكانت الواحدة من بين نساء البيت النبوي ونساء المسلمين التي حظيت بهذا الموقف، وهي الوحيدة بين مجتمع النساء اصطُفِيت إلى كساء أبيها يوم نزلت آية التطهير لآل البيت. فهي في توصيف كتاني: “لقد كانت النبوة طفلك البكر، داعبتيه بيد، قبلتيه بفم، عانقتيه بعين، رافقتيه بقلب، حضنتيه بروح، ضممتيه بشوق، فأشعلت بين حناياك أشواق السماء، والتهبت في محجريك أثقال المعاني”.
لا شك إن هذه القيثارة لم تتوقف عن صدحها نغمة الحق حتى بعيد وفاة أبيها، إذ وقفت تنشد عليها في مجتمع الخليفة بعدما تخطت إلى صدر المجلس وأعلنت عن غضبها على ركوب تراث أبيها وحرمانها من ريعه في خطبتها “الفدكية”. ترجمت عوالي القيم: قيمة الحق، وقيمة العدل، وقيمة الشجاعة والموقف؛ حتى قال كتاني: “من قال: إن البطولات وقف على الرجال” (ص150).
استعمل كتاني الأسلوب الأدبي في استيحاء المعاني وتوظيف البنى اللفظية المشحونة بالبيان والبديع والصور وحتى الرموز، فقدمت عبقاً وألقاً على طبق عاجي تشف له الأسماع وتسر الأنظار.
قراءة العنوان من حدوده (الزمكانية) أمر ضروري في منهجية البحث وترسم ملامح الصورة وأبعادها وهذا ما كانت عليه مكة التي تحيطها بأبعادها الحضارية: نجران المسيحية ويثرب اليهودية تشكل الأغلبية، والطائف الوثنية، فازدانت مكة بشمولها التعددية الدينية والاجتماعية. فالديانات الإبراهيمية من الموحدين تتعبد في رسم إبراهيم وإسماعيل على جدار البيت، واليهود في رسم هارون وموسى، والمسيحية بلوحة مريم والمسيح، وبدايات الدعوة الجديدة حيث يقيم الصلاة محمد وخديجة وعلي فضلاً عن وجود الصابئة والمجوسية، وتلكم هي الأديان التي ذكرها القرآن الكريم. أضف إليها الديانة الوثنية في تنوع أوثانها التي بلغت 360 وثنا… وهي أكثر أتباعاً؛ يَأْتُوها الناس {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
المصادر:
- سليمان كتاني – كتاب ‘فاطمة وتر في غمد’.
- أ. د. صادق المخزومي : سليمان كتاني – النشيد الفاطمي.
- الشيخ عبد المنعم حسن – كتاب بنور فاطمة اهتديت.
#ملف_المرأة_والمجتمع #فاطمة_الزهراء #مريم_العذراء #Ihsanullah_Osman #نساء_خالدات

Leave a Reply