الباشكاتب: محمد الأمين.. الوجد الصوفي الذي غلب النغم

صحيفة الهدف

يُعدّ الموسيقار محمد الأمين، أو كما يُلقّب بـ “الباشكاتب”، أحد أبرز رموز الموسيقى السودانية الحديثة، وصوتها الأكثر صدقًا وعمقًا. فهو موسيقار وملحن ومغنٍّ جمع بين الانضباط الأكاديمي والإحساس الشعبي، حتى أصبح مدرسة قائمة بذاتها في الأداء والتلحين والتوزيع الموسيقي.

نشأ محمد الأمين في بيئة مشبعة بالفن والتراث، وابتكر أسلوبًا متفرّدًا يجمع بين دفء الحنجرة وثراء النغم، وبين الالتزام الفني والتجديد المستمر في البنية اللحنية. لذا، ارتبط اسمه بالصدق الفني، حتى صار كل من يسمع أغنياته يشعر أنه أمام تجربة تتجاوز الطرب إلى التأمل.

الدموع التي غلبت النغم: قصة “سوف يأتي”

من أبرز اللحظات التي كشفت عمق إحساس محمد الأمين، تلك اللحظات التي بكى فيها أثناء أدائه لأغنية “سوف يأتي”، من كلمات الشاعر الدكتور تاج السر إدريس كُنّة.

على الرغم من انتقال الأغنية إليه عام 1968، إلا أنه لم يؤدها إلا بعد خمسة عشر عامًا، في عام 1983، بعد أن وجد العازفين المهرة القادرين على تنفيذ اللحن كما أراده (ومن بينهم البروفيسور الفاتح حسين وماهر تاج السر وميرغني الزين).

خلال أداء تلك الأغنية، دخل “الباشكاتب” في نوبة بكاء صادق، لم تكن ضعفًا، بل حالة وجدٍ صوفيٍّ خالصة؛ لحظة امتزج فيها الفن بالروح، فغلبت الدموع على النغم. البكاء أثناء الغناء هو حالة صوفية روحية وفنية تُعرف باسم الوجد، وهي أعلى درجات التسامي الروحي.

إرث الخلوة وجذور كردفان

لم تكن هذه الحالة غريبة على محمد الأمين، الذي بدأ تعليمه في الخلوة وتشرّب روح الإنشاد والمديح النبوي، مما أضفى على فنه صدقًا نادرًا وشحنة روحية واضحة في إحساسه وأدائه.

كما انعكست روحه المتصوفة في اختياراته الموسيقية، إذ ابتعد عن آلات النفخ وفضّل الآلات الوترية لما تمتلكه من قدرة عالية على التعبير عن المشاعر الدقيقة، واستخدم آلة البيكلو بذكاء.

وقد قدّم محمد الأمين أغنية واحدة ذات طابع صوفي بعنوان “غرار العيوس دار الكمال ونقاص”، في رثاء الشيخ عبد الباقي أزرق طيبة، من كلمات الشاعرة الشعبية الحاجة بلالة بابكر. ولعل كثيرين لا يعلمون أن للموسيقار أصولاً وجذورًا أسرية في كردفان، وهو ما أكده بنفسه في إحدى حفلاته هناك.

يظل “الباشكاتب” محمد الأمين حالة إنسانية فريدة، مفعمة بالعاطفة والصدق والانكسار، وتجربة فنية نادرة في تاريخ الموسيقى السودانية. فهو لم يكن فنانًا يغني فحسب، بل ذاكرة وطنٍ وصوت جيلٍ، ورمزًا للفن النقي الذي يصدر من القلب ليصل إلى القلوب.

اللهم اغفر للفنان محمد الأمين، واسكنه فسيح جناتك.

#محمد_الأمين #الباشكاتب #الموسيقى_السودانية #سوف_يأتي #الوجد_الصوفي #الفن_السوداني #الخلوة #أغاني_سودانية #ملف_الهدف_الثقافي #كردفان

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.