#ملف_الهدف_الثقافي
إن المتاحف ليست جدرانًا صامتة تُعلَّق عليها شواهد الماضي، بل هي نصوص حيّة تنبض بالحياة، تُكتب فيها سيرة المجتمع وسياقه الحضاري عبر العصور. ففي كل قطعة أثرية تُعرض، تختبئ حكاية وطن، وإنجاز حضارة، ودليل على عبقرية الإنسان في مواجهة الفناء.
إن المتاحف والآثار هي الذاكرة التي تربط صيرورة الماضي بالحاضر والمستقبل. وفي السودان، ورغم الهجمة الممنهجة التي استهدفت البنى الثقافية والعلمية والحضارية إبّان الحرب العبثية، وما تعرّضت له المتاحف والآثار من نهب وسرقة، تبقى تلك التي نسجت خيوط التاريخ المشترك بين حضارات وادي النيل وبلاد الرافدين والهلال الخصيب، ومن حضارات سبأ ومعين إلى مروي ونبتة وكوش، كلها صفحات من كتاب واحد عنوانه الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية وإفريقيا، ومضمونه السعي الإنساني نحو الخلود والتجدّد والمساهمة الحضارية في المعرفة والمصير الإنساني.
ففي السودان، حيث تتجاور الصحراء بالنيل، كانت ممالك كوش ومروي ونبتة من أوائل من صاغوا ملامح الحضارة في القارة الإفريقية، وقد وضعت اللبنات الأساسية في علوم الفلك والرياضيات والزراعة والصناعة، مثلما كانت حضارة مصر القديمة منارة للفكر والفن والعمران في العالم القديم. وفي الشام والعراق واليمن والجزيرة العربية، تتناثر شواهد المدن الأولى، من سوبا والبركل وتدمر وأوغاريت إلى بابل ومأرب، شاهدة على وحدة صيرورة السياق الحضاري قبل أن تُعرف الحدود وتُرسم الجغرافيات السياسية في الحقب الاستعمارية.
المتحف إذن، ليس حارسًا للماضي فحسب، بل هو مؤسسة للوعي القومي، تُذكّر الإنسان بانتمائه، وتُعيد وصل ما انقطع بين الأجيال. إنه أداة للتربية الوطنية والدبلوماسية الثقافية، ووسيلة ناعمة لتأكيد المكانة الحضارية في زمنٍ تتنافس فيه الأمم برصيدها المعرفي ورموزها الثقافية، لا بعدد جيوشها.
إن حماية المتاحف وصون الآثار في السودان وفي الوطن العربي ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية. فالأمم التي تفقد ذاكرتها تفقد بوصلتها، أمّا التي تحافظ على تراثها فهي التي تكتب بمداد الوعي فصلها الجديد في كتاب الحضارة الإنسانية. وهو ما يجعل وقف الحرب العبثية هدفًا ثقافيًا وحضاريًا، وضمانة لحماية الموروث الحضاري وصروحه من متاحف ومواقع أثرية، واسترداد المسروقات الأثرية، وإعادة تأهيل بنيتها التحتية، والاستلهام بالإنجاز المعماري والثقافي والاقتصادي الذي مثّله تدشين المتحف المصري الكبير.

Leave a Reply