بقلم: سلمى نايل
رجلٌ بقامة الطود شموخًا، وكبرياءٍ يورق كالنخيل في القيظ، ورقةٍ تنساب كحلاوة النسيم في فجرٍ بعيد.
هو آدم العباس أبو بكر، الرفيق الذي عرفناه كما تُعرف المعادن النفيسة في محكّ المواقف، رجلٌ يخاف الله في كل خطوة، ويخشى الباطل كما يخشاه الأولياء، لا يعرف الرياء إلى قلبه سبيلًا، ولا يجد الكذب بابًا في حديثه.
عرفناه في القادسية وأم المعارك والانتفاضات وساحات المقاومة الشريفة، فارسًا لا يلين، لا يخاف في الحق لومة لائم، يثبت حين يتراجع الجمع، ويحنو حين تقسو الحياة.
عرفناه في دورنا العامرة بوجوده، يسأل من أكل، ومن نام، ومن غاب، ومن حضر. كان فينا الرحمة والأمان، والأخوة والصداقة، والفرح الذي لا يغيب.
واليوم، يرحل هذا الرجل العظيم، لا إلى جبهةٍ ولا إلى معركة، بل إلى رحلةٍ من نوعٍ آخر، يحمل على كتفيه طفلين صغيرين بعد أن ودّع شريكة حياته، هاربًا بهم من نيران الحرب، علّه يجد لهم مأمنًا في الحدود التشادية، حيث تهدأ القذائف ولا تُقصف الأحلام.
لكن الحرب لم تتركه وشأنه، إذ باغتته في أقدس ما يملك… في فلذة كبده زاهية، تلك التي كانت تتلوّى من المرض أمام عينيه، لا دواء، ولا طريق عودة، ولا قدرة على الرحيل.
حتى توقفت الساعة عند الواحدة صباحًا، لتعلن رحيل زاهية أمام والدها، فيما طفلاها الصغيران يتمرغان في أحضانها الباردة، بحثًا عن دفءٍ رحل معها.
أيُّ وجعٍ هذا؟
وأيُّ فاجعةٍ أن تُدفن قطعة من قلبك بيديك، في أرضٍ غريبة، بلا جارٍ ولا قريب، ولا صوتٍ يقول لك: “عظّم الله أجرك”؟
دفنها ورفع رأسه إلى السماء، يبحث في الأفق عن وجه الوطن الذي تركه قسرًا، يسأل الله أن يبقي له صبره، وأن لا يخذله الحنين.
مشهدٌ لو رآه العالم، لعلم أن الحرب في السودان ليست صراعًا على سلطة، بل مأساة إنسانية تُزهق الأرواح وتُبدّد الأوطان، وتحوّل الرجال العظام إلى غرباء يدفنون أبناءهم عند تخوم الغربة.
رحم الله زاهية، وجبر كسر أبيها، وأبدله عن حزنه نورًا وصبرًا وأملاً.
وسيبقى آدم العباس، كما عهدناه، رجلًا من طين الوطن وضياء الإيمان، لا تهزمه المآسي، بل ينهض من رمادها كما ينهض السودان دائمًا: كبيرًا… نبيلاً… باقياً رغم الألم.

Leave a Reply