إبراهيم وان
كاتب من موريتانيا
#الهدف_آراء_حرة
لم تكن المـ.ـأساة السودانية وليدةَ لحظةٍ عابرة، ولا نتاجَ خصومةٍ بين قوتين متنـ.ـازعتين على سلطةٍ زائلة، بل حصيلةَ تراكمٍ طويلٍ من الأخطاء البنيوية التي نخرت جسد الدولة منذ عقود، حين تراجعت روحُ الانتماء الوطني أمام زحف العصبيات الجهوية والقبلية، وجرى توظيف الدين- الذي كان يومًا وعاءً للوحدة- ليصبح أداةً في يد دعاة الانقسام ومبررًا لهيمنة فئةٍ على أخرى.
تلك النزعات أُعيد إحياؤها عمدًا، لتكون سـ.ـلاحًا ناعمًا يُفكّك المجتمع من الداخل ويُعيد تشكيل الولاءات على أساسٍ ضيّقٍ لا يتّسع للوطن. وهكذا تحوّل الدين من رسالةٍ جامعة إلى لافتةٍ انتقائية، والقبيلة من رابطة اجتماعية إلى أيديولوجيا سياسية، والجهة من مجالٍ للتنوّع إلى ساحةٍ للمفاصلة والتنـ.ـازع.
في مسرح التاريخ الحديث، لم يكن السودان استثناءً من المشروع الذي اجتاح معظم دول إفريقيا والوطن العربي: مشروعُ “إيقاظ الهويات النائمة” على حساب الهوية الجامعة. بدأ الأمر فكريًا وثقافيًا، حين سُحبت بساطُ المشترك الوطني تحت أقدام الناس، وبرزت نخبٌ محلية تروّج للعرق والقبيلة والجهة بوصفها خلاصًا من التهميش، لكنها في الحقيقة كانت تُعيد إنتاج التمزّق بأدواتٍ جديدة وشعاراتٍ براقة.
القومية، حين تُفرغ من قيم الحق والعدل، تتحوّل إلى أنانية جماعية تتوشّح بالدين والهوية لتُبرّر الإقصاء والظـ.ـلم. والقبلية، حين تتغذّى من الخـ.ـوف والكـ.ـره، تصبح سـ.ـلاحًا ماضِيًا في يد من يريد تمـ.ـزيق الأمة وتفتيت الدولة. وهكذا تحوّلت المنطقة بأسرها إلى رقعة شطرنج تُحرّكها مصالح القوى الخارجية، التي وجدت في الانقسام الداخلي أفضل وسيلةٍ للهيمنة ونهـ.ـب الثروات.
ما نشهده اليوم في السودان ليس إلا الحصاد المرّ لتلك السياسات؛ سياساتٌ عمّقت الجهوية، ورسّخت المحاصصة، وجعلت القبيلة معيارَ الولاء، والجهةَ سلّمَ الترقي، وألبست الدين لبوس العصبية لتُكسبها شرعيةً زائفة. فتحوّل المجتمع إلى حقل ألغام، يكفيه شرارةٌ صغيرة لتنـ.ـفجر النـ.ـار في أطرافه كافة.
إن استعادة السودان- بل والوطن العربي والإفريقي عمومًا- لا تكون بإيقاف البنـ.ـدقية وحدها، بل بإعادة بناء الوعي الجمعي على أسسٍ جديدة: وعيٍ يعيد الاعتبار للهوية الجامعة، ويستبدل منطق الولاء الضيّق بمنطق المواطنة الرحبة. وعيٍ يدرك أن التنوع مصدرُ غنى لا سببُ شقاق، وأن الاختلاف لا يُفسد للوطن قضية إذا ظلّ محكومًا بالعدل والكرامة المشتركة.
نحن اليوم أمام مفترقٍ حاسم: إما أن نرتقي فوق قيود القبيلة والجهة والدين المؤدلج، فنصنع مشروعًا وطنيًا ينهض على العدل والمساواة، وإما أن نظل أسرى دوّامةٍ من الصـ.ـراعات العبثية تُدار عن بُعد، لنستيقظ كل صباحٍ على مجزرةٍ جديدةٍ تُرتكب باسم الهوية والدين.

Leave a Reply