مجدي علي
يغمرني شعور عميق بالسعادة والامتنان وأنا أتابع أبناء السودان يجتمعون هذه الأيام في الرياض لتكريم قامة فنية سامقة، وهرم من أهرامات الغناء السوداني الأصيل، الفنان محمد جبارة. إنه تكريم مستحق لرجل أفنى أكثر من نصف قرن في خدمة الفن، فغرس بصوته النقي قيم المحبة والسلام والانتماء للوطن، وجعل من أغنياته جسوراً تربط بين الأجيال، وتوثّق روح السودان في أجمل صورها، وتخلّد تفاصيل الحياة البسيطة للناس العاديين في القرية والمدينة على حد سواء.
وُلد محمد جبارة عام 1947 في قرية المقل بمركز مروي في الولاية الشمالية، وسط بيئة مشبعة بالشعر والغناء الشعبي وإيقاعات الطنبور والدليب. من هناك تفتحت بصيرته على جمال النيل وسكون السواقي، فكان طبيعياً أن يتحول هذا الحس المرهف إلى نغمة تنبع من عمق الأرض السودانية، تعكس الطبيعة والحياة اليومية وروح الإنسان السوداني في أحاسيسه البسيطة ومعاناته وأفراحه.
في عام 1965، غادر قريته متجهًا إلى مدينة عطبرة، عاصمة الحديد والنار، وهناك بدأت ملامح مشروعه الفني تتشكل حين صدح بأغنيات الرواد قبل أن يقدم أولى أغنياته الخاصة “صدفة سعيدة” من كلمات الشاعر عبد الرحيم حسن إدريس عبر إذاعة أم درمان، لتكون الشرارة الأولى لمسيرة طويلة من العطاء، ومسيرة اتسمت بالصدق والإخلاص للفن والرسالة الوطنية.
تطورت مسيرته الفنية، وبرز محمد جبارة بوصفه أحد أعمدة غناء الطنبور، وارتبط اسمه بعدد من الشعراء الكبار الذين شكّلوا معه ثنائيات خالدة صنعت له مجداً، ولأغنية الطنبور ارتقاءً وذيوعاً. من أبرز هذه الثنائيات مع السر عثمان الطيب، الذي كتب له روائع مثل “يا يمه رسلي لي عفوك”، “بت البلد”، “تراب بلدي”، و”بحر المودة”. وفي أواخر السبعينيات، جمعته صداقة إبداعية مع الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد، فكانت ثمارها أغنيات باقية في الوجدان مثل “حلوة عيونك لما تبسم”، “نورا”، و”من حقي أغني لشعبي”.
في العام 1987، انطلق محمد جبارة في جولة فنية خارج الحدود شملت دولاً أوروبية، وأصدرت لهم شركة World Circuit البريطانية الأسطوانة الشهيرة “أصوات السودان”، التي احتوت على أشهر أعماله مثل “نورا”، “القمري رحل”، و”قروش الجن”.
لم يكن محمد جبارة فناناً غنائياً فحسب، بل صوتاً يحمل رسالة إنسانية ووطنية. غنّى للأم والحبيبة والوطن، وجعل من الفن أداة توحيد، ومن الأغنية جسراً بين الأجيال والمناطق والثقافات. آمن بضرورة توثيق الغناء الشعبي للأجيال الجديدة، وكان من أشدّ الداعمين للمواهب الشابة، مؤمناً أن الفن لا يُورَّث بالدم، بل بالإلهام والصدق، وبأن الأغنية تحمل في ثناياها ذكريات الناس ومشاعرهم الحقيقية.
من المقل إلى عطبرة، ومن أم درمان إلى أوروبا، ظل صوته يجمع الناس على كلمة الجمال، ويذكّرهم بأن الأغنية ليست لحظة طرب عابرة، بل فعل حب وسلام لا ينتهي. محمد جبارة الفنان الذي غنّى للوطن من القلب، صار صوته جزءاً من تراب السودان، نغمة لا تموت وحنين لا يزول، ومرآةً لروح السودان الحقيقية في كل زمان ومكان.
#ملف_الهدف_الثقافي #محمد_جبارة #غناء_الطنبور #الفن_السوداني #تكريم_محمد_جبارة #أصوات_السودان #مجدي_علي #السودان #الولاية_الشمالية #عطبرة

Leave a Reply