كلمة الطليعة

صحيفة الهدف

من حق اللبنانيين أن تكون لهم دولة

مما لا جدال حوله، أن الدولة بمفهومها الدستوري والحقوقي تمثل الشكل الأرقى في إدارة الاجتماع السياسي. وهي بشكلها الحالي والمواثيق التي تحكم علاقاتها، جاءت نتيجة تطور تاريخي للمجتمع البشري الذي انتقل من المجتمع الرعوي إلى المجتمع المديني، بغض النظر عن طبيعة النظم السياسية التي تتولى إدارة شؤون الدول وفق القواعد الدستورية التي تنظم عمل السلطات المناط بها إدارة الشأن العام.

والدولة كي تصبح حقيقة موضوعية قائمة، يتطلب قيامها ثلاثة عوامل، أرض وشعب وسلطة، إثنان ثابتان وهما الأرض والشعب، وثالث متغير وهو السلطة التي تتبدل إما ببنيتها وإما بعناوينها في النظم  التي تأخذ بالتوريث في تولي المواقع فيها.

والدولة تستمد قوتها من تماسك بنيتها الداخلية، وقيامها بوظائفها الطبيعية المناطة بها حمائياً ورعائياً، وقدرتها على اتخاذ القرارات المصيرية المتعلق منها بالجوانب السياسية أو العسكرية والاقتصادية. كما إدارة الملفات ذات الصلة بالأمن الوطني العام وأمن المواطن بكل ما يتعلق بشؤونه الحياتية وتمكينه من ممارسة حقوقه تحت سقف القانون. وعليه لا بمكن تصور قيام الدولة بوظائفها الأساسية إن لم تستطع فرض سلطة القانون على جميع مواطنيها على قاعدة المساواة وبسط سيادتها على كامل الأرض الوطنية. فإن لم تقم بذلك، فهي لا تكون مستوفية الشروط اللازمة لقيامها، وإذا لم تستطع لمعوقات تحول دون ذلك، فالنتيجة تكون واحدة، وهي أن الدولة تكون والحالة هذه هيكلاً مفرغاً من مضمونه الفعلي لعجزها وعدم قدرتها على فرض نفسها كهيئة اعتبارية تعلو الجميع مهما كانت أطراف هذا الجمع تمتلك من عناصر القوة الذاتية.

إن الدولة عندما يقتصر وجودها على الهيكل الأسمى، تصبح مضطرة لإدارة الاجتماع السياسي بأسلوب المحاباة تارة، وأسلوب التسويات تارة أخرى، وفي كلتا الحالاتين يكون الناتج السياسي الناجم عن المحاباة والتسويات عرضة للتبدلات عملاً بتبدل الظروف التي أملت اعتماد صيغ المحاباة في احتواء الأزمات، أو عرضة للاهتزازات، عملاً باهتزاز الأنصبة التي تشكل أرضية لإنتاج التسويات. وهذا ما يجعل الوضع الداخلي يتسم بالهشاشة والعرضة للانهيار مع كل عاصفة تهب عليه من معطى خارجي أو من وضع داخلي مأزوم.

إن الدولة عندما تعجز عن القيام بوظائفها لأسباب ذاتية تتعلق بأداء السلطة التي تتولى مؤسساتها إدارة المرفق العام، أو لأسباب موضوعية تتعلق بعوامل تحول ودورها المناط بها، فإن النتائج السلبية تطال جوانب الحياة للكل المجتمعي. وهذا ما يشكل نوعاً من العقاب العام ولو كان مرتكب المخالفة من الخاصة فرداً أو جماعة.

من هنا، فإن شرط وجود الدولة وقيامها بوظائفها، هو أولاً، احتكارها للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وثانياً قدرتها على ممارسة هذه السلطة وتطبيق إجراءاتها وفق أحكام الدستور والقوانين والمراسيم النافذة. وكل من يحول دون قيام الدولة بوظائفها، يكون مساهماً في إضعاف قدرة الدولة على بسط سيادتها وعلى إدارة ملفاتها وخاصة تلك المتعلقة بالأمن الوطني.

في ظل واقع كالذي يعيشه لبنان، فإن التعطيل لا تقتصر ممارسته على فريق دون آخر، بل الكل المشارك في السلطة والذي ينـ.ـهش في الجسد الوطني، ويسعى لتكييف الوضع على مقاسه الخاص إنما هو مساهم في مشروع التعطيل. منهم من تصرّف ويتصرف وكأنه سلطة أمر واقع ولو تمركز تأثيره المباشر في بيئة محددة مجتمعياً ومكانياً متذرعاً بمعطى ثلاثية فرضتها موازين قوى سائدة في مرحلة معينة وأدرجتها في البيانات الوزارية وتمسكت بها وكأنها وثيقة دستورية. ومنهم من يسعى لتفصيل المقاس الوطني على مقاسه الخاص لزعم صحة التمثيل والحرص على ما يسمى بالميثاقية، ومنهم من يشرّع لحماية نظام المحاصصة والدفاع عن الإمتيازات ومنهم من يستمرئ نهب المال العام ويسطو على أموال المودعين صغاراً كانوا أو كباراً، ولهذا فإن كل هولاء ليس من مصلحتهم الخاصة  قيام الدولة المستوفية شروط قيامها الأساسية، وبمعنى آخر قيام الدولة القوية والقادرة، وهذا باعثه سبب بسيط هو أن قيام الدولة القوية والقادرة، يلغي أدوار قوى الأمر الواقع التي تكابر على الاعتراف بالمتغيرات الحاصلة مع اصرارها على استعمال الساحة الوطنية منصة لإدارة مشاريع وفقاً لمقتضيات أجندات خاصة ذات بعد إقليمي ولا علاقة لها بالضرورات الوطنية، كما يلغي أدوار من يستقوي بالخارج الإقليمي أو الدولي  لتحسين مواقعه في السلطة اياً كان شكل الاستقواء وعناوينه أو على الأقل تضعف من تأثيراته، كما أنه يحاصر من يتناتش الجسد الوطني ويحد من استمرار حالة النزف الدائم التي تؤدي إلى إضعاف عوامل المناعة الداخلية سياسياً كان الأمر أو اقتصادياً ومالياً  واجتماعياً.

وعليه، إن قيام الدولة القوية مرهون بقدرتها على مواجهة هذه المروحة الواسعة من القوى التي لا مصلحة لها بقيام الدولة التي ينشدها المواطنون التي توفر لهم كل مستلزمات ومقومات أمنهم الحياتي والوطني. وهذه القوى على اختلاف مسمياتها ومنابتها الفكرية وإن بدت مختلفة في الظاهر ومتعارضة في طروحاتها وروأها السياسية؛ فإن اختلافها ينصب على الحصص من جبنة السلطة، وليس على بناء الدولة بناء وطنياً يحاكي المصلحة الوطنية قبل محاكاة مصالح قوى المحاصصة التي تمسك بمفاصل السلطة وتتنعم بامتيازاتها ولو كان على حساب السيادة الوطنية وإفقار الشعب.

إن لبنان، ومنذ انفـ.ـجرت أوضاعه منتصف السبعينيات وما خلفته من ندوب في الجسم الوطني، مرت دولته بثلاث مراحل، الأولى التي امتدت منذ انفـ.ـجر الوضع السياسي والأمني على نطاقه الواسع حتى نهاية الثمانينيات حيث اقتصرت وظيفة الدولة على إدارة الأزمة ضمن حدود ما مكنتها من ذلك ظروفها الخاصة، والثانية منذ إقرار اتفاق الطائف وتحوله إلى وثيقة دستورية وقد  وقعت الدولة كلياً تحت الوصاية السورية مع هامش واسع لها في تنفيذ مشاريع إعمارية،  والثالثة بدأت بعد انتهاء عهد الوصاية السورية ووقوع لبنان تحت عبء التثقيل الإيراني لساحته واتخاذه منصة لخدمة المشروع الإيراني على مستوى الإقليم. وهذه المرحلة الثالثة كانت الأكثر سلبية بوقعها على اللبنانيين لأن تعطيل الدولة كانت السمة الأرز التي ميزت هذه المرحلة. فطيلة هذه المرحلة، فقدت الدولة ميزّة إدارة الأزمة لأنها كانت تدار من الخلف، كما فقدت القدرة على إكمال تنفيذ مشاريع العمرانية وتأهيل ما هدمته جولات الصراع التي دامت طيلة الفترة الأولى. ولهذا فإن لبنان على مدى عشرين سنة عانى من فراغ سلطوي على مستوى كل مؤسساته وانهيار وضعه المالي في اسوأ انعكاس للوضع الأمني – السياسي على الواقعين الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي.

هذا الوضع الذي ساد الحالة العامة أملى إعادة ترتيب الأولويات، بحيث تراجعت مطالب الإصلاح والتغيير في بنية النظام، إلى مواقف خلفية وتقدم المطلب الملح المتمثل بإعادة الاعتبار للدولة.

أما لماذا تقدم هذا الشعار على غيره من الشعارات التي كانت مطروحة، فلأن التحديات التي تواجه لبنان باتت تجاوز العناوين السياسية ذات البعد الإصلاحي إلى العناوين ذات البعد الوطني. وهذه العناوين تتمحور حول ثلاثة ملفات. أولها، الملف المتمحور حول تحدي مواجهة الاحتلال الصهيوني واستمرار عدوانه رغم مرور عامٍ تقريباً على ما سمي اتفاق وقف الأعمال العدوانية- وهو اتفاق إذعان رغم كل ادعاء معاكس- وثانيها ملف العلاقة مع سورية، وثالثها ملف البناء السياسي الداخلي وإعادة التأهيل الاقتصادي والاجتماعي ومن ضمنها إعادة الإعمار.

هذه الملفات، لا يمكن لأي طرف أن يديرها لتعلق الأمر ببعدها الوطني، حيث أن الصراع مع العدو الصهيوني، هو صراع شمولي باعتباره يندرج تحت عنوان الصراع الوجودي الذي يطال كل جوانب الحياة، وحتى لو بادر طرف بمفرده للانخراط في سياقات العمليات العسكرية، فإن تلقي النتائج لا يستطيعه هذا الطرف مهما بلغت إمكاناته، هذا إذا كان مركز التحكم والتوجيه لهذا الطرف وطنياً، فكيف يكون الأمر لو كان مركز التوجيه والتحكم خارجي؟

وأما الملف الثاني، وهو ملف العلاقة مع سورية، فإن هذا الملف وإن كان أقل تعقيداً من ملف تحدي المواجهة مع العدو الصهيوني عسكرياً وسياسياً واجتماعياً، إلا أنه ملف تشوبه كثير من التعقيدات، وهو يمتد من ملف العلاقات الثنائية بدءًا من احتواء التراكمات السلبية التي شابت العلاقة بين البلدين طيلة المرحلة إلى ملف ترسيم الحدود وعقدتها الأساسية التي تتمحور حول الهوية الوطنية لمزارع شبعا. وبالتالي، فإن الدولة هي المعنية بإدارة هذا الملف للوصول به إلى مآلاته النهائية لإعادة إنتاج علاقات إيجابية بين البلدين وبما يخدم مصلحة الشعبين وينهي الإشكالات العالقة بين البلدين.

وأما الملف الثالث، وهو ملف إعادة البناء السياسي والتأهيل الاقتصادي والاجتماعي، فهذا الملف الذي باتت اعباؤه ضاغطة على كل اللبنانيين، لا تستطيع إدارته إلا الدولة بكل مستلزماته ذات الصلة  بالأسس التشريعية  والتنفيذية وتوفير مصادر التمويل.

من هنا، فإن اللبنانيين الذين اكتووا بنار الأزمة على مدى خمسين سنة، من حقهم أن يخرجوا من أتونها إلى بر الأمان الوطني والاجتماعي، وهذا الحق لا تستطيع تأمينه إلا الدولة التي يجب على الجميع الدخول في مشروعها وتسهيل مهمة إنفاذ وظائفها الحمائية والرعائية.

إن  هذا يفرض على المعطلين وكل الذين  يضعون العصى في دواليب الدولة وهم معروفون باسمائهم وعناوينهم، أن يغادروا المواقع التي يتمترسون فيها، وأن يعيدوا حساباتهم في ضوء المتغيرات الحاصلة بكل انعكاساتها السلبية على الواقع الوطني العام، وأن يضعوا إمكاناتهم في تصرف الدولة.

ومن يدعو الدولة  لتحمل المسؤولية وخاصة في ملف إعادة الإعمار، عليه اولاً، أن يسهّل قيام الدولة فعلاً، لا أن يعيق ويعطّل دورها لضرورة محاكاة بيئته الخاصة.

  من حق اللبنانيين أن تكون لهم دولة قوية وقادرة، وهذا حق وطني عام ولا يجوز لأحدأ أن ينتقص من مشروعية هذا الحق.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.