د. كمال دفع اللّٰه بخيت
في خضمّ تصاعُد التنافس بين القوتين العُظميين، الصين والولايات المتحدة، تبدو الجبهات المتعددة، من الحرب التجارية إلى سباق الموارد في إفريقيا، ومن الصراع حول أفغانستان إلى التعاون الكوري-الأمريكي حول المشروع النووي السعودي، وكأنّها أجزاء متشابكة من لعبة استراتيجية كبرى. في هذا السياق، يُعدّ عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب محطة مفصلية تُعيد رسم ملامح النفوذ الأمريكي، بينما تعمل الصين على بناء ردّها الخاص. في هذا المقال نسلط الضوء على الاستراتيجية الصينية السياسية والاقتصادية في مواجهة الولايات المتحدة، ونربطها بسياقات أفغانستان وإفريقيا والسودان والمشرق العربي، ونحلّل كيف ظهرت واشنطن في ظل إدارة ترامب في هذا الفضاء المعقّد.
1/ استراتيجية الصين: التحوّل من الصادرات إلى الإمبراطورية الصناعية
أ. من النمو السريع إلى السيطرة الموجهة
تعمل الصين اليوم على إعادة صياغة نموذجها الاقتصادي؛ إذ لم يعد الأمر محصورًا في التصدير فحسب، بل بات موجّهًا لتحويلها إلى لاعب محوري في سلاسل القيمة العالمية، خصوصًا في الصناعات الحسّاسة، حيث تؤكد السياسات مثل “صُنع في الصين 2025” أنّ بكين تسعى ليس لمجرّد النمو، بل إلى الهيمنة التقنية والصناعية.
ب. التجارة والحرب الرسومية: استخدام الرسوم كأداة استراتيجية
تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية ضخمة وقيود تصدير على التكنولوجيا المتقدمة، مستهدفة الصين أولًا. في المقابل، تسعى الصين إلى التغلب على الولايات المتحدة في لعبتها الخاصة. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، ادعت واشنطن امتلاك سلطة واسعة لفرض قواعد عالمية تمنع الشركات في أي مكان من العالم من إرسال رقائق الكمبيوتر المتطورة أو الأدوات اللازمة لتصنيعها إلى الصين، مما دفع التنين الصيني للرد بتحوّلات في سلاسل التوريد، والتركيز على “دول البديل” — أي “China + 1” — في محاولة لتخفيف تبعيتها للسوق الأمريكية.
ج. التركيز على الموارد والسلع الاستراتيجية
أدركت الصين مبكرًا أن السيطرة على المعادن الحرجة، مثل الليثيوم والكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، تشكل مفتاحًا للصناعات المستقبلية، كالطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية. لذا توسّعت استثماراتها في إفريقيا، ووضعت لنفسها شبكة من الموارد التي توفر لها قدرات تنافسية في السنوات المقبلة، مما يتيح لبكين منفعة اقتصادية وبطاقة نفوذ في مواجهة الغرب.
د. حظر استيراد منتجات زراعية أمريكية
أعلنت الصين الأسبوع الماضي أنها علّقت تراخيص استيراد فول الصويا الأمريكي لثلاث شركات أمريكية، كما أوقفت استيراد الأخشاب الأمريكية، كجزء من ردة فعل على الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة. وعزّزت الرسوم الجمركية الإضافية بمعدّل 10–15٪ على منتجات زراعية أمريكية، بما في ذلك القمح، اللحوم، والقطن. وتشير التقارير إلى أن الصين منذ مايو 2025 لم تشتري تقريبًا أي فول صويا أمريكي، مما يضع مزارعي فول الصويا في الولايات المتحدة تحت ضغط مالي كبير، وفقدوا 12 مليار دولار كانوا يحصلون عليها من التوريد إلى الصين، فيما بدأت الصين فعليًا استيراد فول الصويا من أسواق بديلة في أمريكا اللاتينية.
2/ ثغرات واشنطن في عهد ترامب: تراجع النفوذ وتحول الأولويات
أ. “أميركا أولًا” والتغيير في الاستراتيجية
اتخذت إدارة الرئيس دونالد ترامب شعار “أميركا أولًا” كمبدأ، لكنه حمل خلطًا بين مصالح قصيرة الأمد واستراتيجية طويلة الأمد. فبينما شدّدت الإدارة على العجز التجاري والممارسات الصينية، فإنّها لم تبنَ أطرًا واضحة لتعاون طويل الأجل.
ب. الطاقة النووية والشراكات الدولية: التدخل بين كوريا والمملكة العربية السعودية
كمثال بارز على التدخل الأمريكي المفضوح، طلبت الولايات المتحدة من كوريا الجنوبية أن تتبنّى تصميم مفاعل أمريكي في عرضها لمشروع الطاقة النووية السعودي، ما أثار اتهامات بـ”تدخل غير لائق”. وقد سخرت صحيفة Korea Joongang في مقالها يوم 15 أكتوبر 2025 من السلوك الأمريكي، موضحة أنه محاولة واشنطن لمشاركة الشركات الكورية في مشاريع استراتيجية، لكنها تواجه مقاومة من شركائها للحفاظ على الذاتية الصناعية.
ج. التراجع في مناطق النفوذ: أفغانستان والسودان والشرق الأوسط
في أفغانستان، لا تقف الصين هامشًا؛ ففي حين انسحبت القوات الأمريكية، بدأت بكين بوضع نفسها كلاعب استراتيجي في إعادة الإعمار، مما أكسبها ثقة الأفغان. وفي السودان، مع تصاعد الحرب الأهلية، تبدو واشنطن عاجزة عن فرض سيادتها أو تحفيز مسار السلام بفعالية. أما في الشرق الأوسط، فيعكس التحول الكلي في السياسة وسط تقارب سعودي-صيني وتنافس أمريكي، ضعف نفوذ الولايات المتحدة التقليدي. وهذا الواقع يُظهر أن “الأمير القديم” لم يعد مستقرًا كما في السابق، وقد أدى موقف الولايات المتحدة مما يجري في قطاع غزة إلى رفض شامل من شعوب المنطقة.
3/ الصين والولايات المتحدة في إفريقيا وأفغانستان: معارك النفوذ الجديدة
أ. إفريقيا: الموارد والنفوذ
أعادت الصين تنظيم حضورها الاقتصادي في إفريقيا بعد جائحة كورونا 2023، مع تركيز على الاستثمارات في المعادن الحرجة والبُنى التحتية الخضراء، مما يجعل إفريقيا ساحة تنافس مفتوحة مع الولايات المتحدة. أما واشنطن، فقد أصبح هاجسها إحباط النفوذ الصيني في إفريقيا وغيرها من مناطق العالم، لكنها لم تعبّر بعد عن استراتيجية شاملة تمكنها من استعادة زمام المبادرة على الأرض.
ب. أفغانستان: خلفية استراتيجية متغيّرة
تُعد أفغانستان رقعة مهمة، حيث تعمل الصين على تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية هناك، في وقت يقل فيه اعتماد الولايات المتحدة على تلك المنطقة كأولوية مباشرة بعد الانسحاب الأمريكي الكبير، مما أتاح للصين تعزيز نفوذها، بما في ذلك عبر مبادرات مثل طريق الحرير البري/ السكك الحديدية وبناء الشراكات.
4/ سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان والشرق الأوسط: بين الواقع والتوقعات
أ. السودان: رؤية أمريكية مهتزة
في السودان، مع تصاعد الحرب الأهلية منذ 2023، حاولت واشنطن التدخّل من خلال دعم مبادرات عدة وربما جهود سلام، آخرها ما يُعرف حاليًا بالرباعية، لكنها لا تمتلك إطارًا ثابتًا أو استراتيجية واضحة لإنهاء الصراع. وفي سياق التنافس مع الصين، فإنّ أي نجاح أمريكي في السودان قد يعزز صورة واشنطن كرائد استراتيجي في السودان وشرق إفريقيا، لكن ما نراه حتى الآن هو تأخّر وإشكاليات في التنفيذ.
ب. الشرق الأوسط: التوازن والتحوّل
في الشرق الأوسط، تتعامل المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول بمرونة متزايدة بين الصين والولايات المتحدة. ونرى تدخلات أمريكية غالبًا ناقصة أو ذات شروط قاسية، بينما الصين تقدّم عروضًا للبُنى التحتية والموارد بأسلوب أقل تدخلًا سياسيًا. هذا يزيد أهمية استعادة واشنطن لصوتها في المنطقة، لكن من دون إرادة أو أدوات فعالة قد تستمر الخسارة.
نخلص من ذلك إلى أن المعادلة العالمية اليوم لم تعد لعبة تجارية بحتة، بل أصبحت لعبة نفوذ صناعي-تقني-استراتيجي.
الصين تتصرّف كقوة مضادة للطموح الأمريكي، مستخدمة الاقتصاد والتجارة والطاقة والموارد والنفوذ الجغرافي كرُقع في شطرنج دولي، في المقابل تواجه الولايات المتحدة أزمة استراتيجية داخلية وخارجية. أما إفريقيا والسودان وأفغانستان والشرق الأوسط فهي ساحات المواجهة الجديدة، لكنها أيضًا فرص للدول الأصغر التي تعرف كيف تستغل تنافس القمّة.
ما سيحدّد مستقبل العقد المقبل ليس فقط من يملك التصنيع أو الموارد، بل من يمتلك التحالفات المرنة، والرؤية الصناعية القوية، والقدرة على التكيّف مع النظام العالمي الجديد.
من هنا أدعو قراء “الملف الاقتصادي” في صحيفة “الهدف” الغراء إلى متابعة كيف سيتغيّر شكل هذا التنافس خلال السنوات القادمة، وهل ستتمكّن واشنطن من إعادة بناء حضورها، أم سيعلن صعود الصين كقوة اقتصادية-استراتيجية لا تُردّ؟
#الصين
#الولايات_المتحدة
#النفوذ_العالمي
#الاقتصاد_الدولي
#الحرب_التجارية
#ترامب
#إفريقيا
#السودان
#أفغانستان
#الشرق_الأوسط
#صُنع_في_الصين_2025
#الملف_الاقتصادي
#صحيفة_الهدف
#التنافس_الدولي
#النفوذ_الصيني
#النفوذ_الأمريكي
#الرباعية
#طريق_الحرير
#التحالفات_الاقتصادية
#ملف _الهدف_الاقتصادي

Leave a Reply