السالمونيلا في السودان: العدو الخفي في مائدة الحرب وتحدي الصحة الواحدة

صحيفة الهدف

أ.د. شادية أحمد محمد لازم

ليست السالمونيلا مجرد جرثومة تتسلل إلى الأمعاء، بل هي كائن مجهري يحمل في بنيته رسالة عن هشاشة المنظومة الغذائية والصحية حين تتكسر أعمدة النظام العام، وتضطرب العلاقة بين الإنسان وبيئته وغذائه. في السودان، تتجلى السالمونيلا كوجه آخر للأزمة؛ أزمة غذاء وصحة واقتصاد وحرب في آن واحد.

التعريف: حين يتحول الغذاء إلى معركة ميكروبية
تنتمي بكتيريا السالمونيلا (Salmonella spp.) إلى عائلة من العصيات سالبة الجرام، قادرة على العيش في أمعاء الحيوان والإنسان. بعضها يعيش في صمت مزمن، وبعضها يثور مسببًا أمراضًا تتراوح بين الحمى المعوية والتسمم الغذائي. هي ليست مجرد ميكروب، إنها استعارة مجهرية للفوضى؛ حين ينهار التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والنظافة والإهمال، تصبح المائدة ساحة معركة لا يراها أحد.

الأسباب: خلل النظام أكثر من خلل الغذاء
تبدأ القصة من المزارع والمسالخ والأسواق، حيث يختلط النظيف بالملوَّث، والحرارة بالغبار، واللحم بالحشرات. غياب التبريد السليم، وندرة المياه الصالحة للغسيل، وضعف الرقابة الصحية، كلها تشكّل منظومة بيئية مثالية لازدهار السالمونيلا. وفي زمن الحرب يتضخم الخطر: الدمار، والنزوح، وانهيار البنى الصحية والرقابية، كلها تفتح الأبواب أمام الجرثومة لتعلن سيادتها على الغذاء والماء والإنسان.

الانتقال: رحلة خفية من الحظيرة إلى المائدة
تنتقل السالمونيلا عبر سلسلة غذائية ملوثة: من الدواجن والبيض النيئ، ومن لحوم الأبقار والماعز، ومن اللبن غير المبستر، ومن الخضروات التي تُسقى بمياه الصرف أو تُغسل بأيدٍ غير نظيفة. كما تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الإنسان حين تغيب قواعد النظافة الأساسية. إنها كائن يعرف جيدًا كيف يتخفى خلف لقمة شهية، أو رشفة حليب، أو قطعة لحم مشوية نصف نضج.

العلامات السريرية: أجساد تتكلم بلغة الألم المشتركة
في الإنسان، تتجلى الإصابة على شكل إسهال حاد، وقيء، وآلام بطنية، وارتفاع في الحرارة، ودوار وضعف عام. أما في الحيوان، فتظهر في صورة إجهاض، وحمى، وخمول، وانخفاض في إنتاج الحليب، ونفوق مفاجئ للصغار. كأن المرض يختبر قدرة الكائنات جميعها على التحمل؛ فالأعراض تتباين، لكن الصرخة واحدة: خلل في السلسلة الحيوية.

دور الحرب: حين تُفتح الأبواب أمام الفوضى الميكروبية
الحرب في السودان لم تترك حقلًا إلا لوّثته بالدمار. انقطاع الكهرباء عطّل التبريد، ونزوح المزارعين أوقف الإنتاج الآمن، وتدهور الطرق قطع سلاسل الإمداد الصحية. في المخيمات المزدحمة، حيث يختلط العطش بالجوع، تتكاثر السالمونيلا كما تتكاثر أسبابها. هي ليست مجرد جرثومة في طعام، بل تجسيد حي لانهيار الدولة في أصغر وحداتها: لقمة الخبز.

دور نظام الهاسب (HACCP): هندسة الأمان الغذائي الغائب
نظام الهاسب (تحليل المخاطر ونقاط التحكم الحرجة) ليس مجرد إطار إداري، بل هو فلسفة وقائية في جوهرها: أن نمنع الكارثة قبل أن تحدث. لو طُبّق في السودان كما يجب، من المزارع إلى المائدة، لأصبح درعًا واقيًا ضد السالمونيلا وغيرها من الأمراض المنقولة بالغذاء. لكن الحرب والضعف المؤسسي جعلا منه نظرية مؤجلة، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل أداة لحماية الإنسان والحيوان معًا.

الأثر الصحي والاقتصادي: سلسلة خسائر في جسد الوطن
السالمونيلا ليست عبئًا صحيًا فحسب؛ إنها نزيف اقتصادي صامت. فهي تقلل الإنتاج الحيواني، وتؤدي إلى إتلاف كميات من اللحوم والبيض والحليب، وتُرغم الأسر على إنفاق ما لا تملك على العلاج. وعندما يضعف الاقتصاد، تضعف الرقابة، ويعود الميكروب لينتقم من جديد، في دائرة عبثية من المرض والفقر والتكرار.

الصحة الواحدة: إدراك المصير المشترك
كما في السل، تظهر السالمونيلا برهانًا على أن الحدود بين الإنسان والحيوان والطعام والبيئة مجرد أوهام. منهج الصحة الواحدة (One Health) يذكّرنا أن علاج السالمونيلا لا يبدأ في المستشفى، بل في المزرعة، وفي السوق، وفي سلوك المستهلك. إنه عقد اجتماعي جديد يعيد تعريف مفهوم “الصحة العامة” ليشمل كل كائن وكل بيئة.

الوقاية والعلاج: حين يصبح الوعي لقاحًا
الوقاية تبدأ من التعقيم، والبسترة، والطهو الجيد، والنظافة الشخصية، ومراقبة مصادر الغذاء والمياه. ويستند العلاج إلى المضادات الحيوية المناسبة بعد التشخيص المخبري الدقيق، مع تعويض السوائل ومنع الجفاف. لكن العلاج الحقيقي لا يكون في الدواء وحده، بل في بناء نظام غذائي وصحي متكامل يحترم الإنسان كما يحترم الحيوان.

الخاتمة: بين لقمة الحياة وميكروب الفوضى
السالمونيلا في السودان ليست فقط جرثومة في المختبر، بل مرآة لحال وطن يتأرجح بين الفوضى والأمل. إنها تذكير بأن الغذاء الآمن ليس رفاهية، بل حق وجودي، وأن محاربة الميكروب تبدأ حين نحارب الجهل والإهمال والفساد. فكل إصلاح يبدأ من المائدة، وكل مائدة نظيفة هي انتصار صغير في معركة كبرى من أجل صحة واحدة، وحياة واحدة، ووطن يستحق الحياة.

#الهدف #ملف_الهدف_الاقتصادي #السالمونيلا #الصحة_الواحدة #سلامة_الغذاء #الأمن_الغذائي #السودان #حماية_المستهلك #الأمراض_المعدية

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.