الاقتصاد الأخضر كفعل وجودي: نحو أنطولوجيا الاستدامة

صحيفة الهدف

طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

“لا نرث الأرض عن آبائنا، بل نستعيرها من أطفالنا”.. بهذا القول القديم تختصر الإنسانية علاقتها المأمولة بالعالم: علاقة استعارة لا امتلاك، عهد بين الأجيال لا عقد استغلال. لقد انتهى عصر الاقتصاد الذي يقيس التقدم بمقدار ما يُستهلك، وبدأ زمن الوعي الجديد الذي يقيس الازدهار بمقدار ما يُحافَظ عليه. فالاقتصاد الأخضر ليس مجرد سياسات أو برامج تنموية، بل انعطافة أنطولوجية، انتقال في معنى الوجود نفسه من السيطرة إلى الشراكة، ومن النهب إلى الرعاية. وكما قال هايدغر: “الإنسان ليس سيد الكائنات، بل راعي الوجود”.

لم تعد الدولة اليوم مجرد حارسة للحقوق، بل أصبحت حارسة للكينونة المشتركة. فحين تُسنّ القوانين البيئية، لا يُراد بها حماية الأشجار فقط، بل حماية الزمن الإنساني ذاته من الفناء. السياسات الخضراء هي صيغة جديدة من العقد الاجتماعي، لكنها تمتد أعمق من علاقة المواطن بالدولة، لتشمل علاقة الإنسان بالمستقبل. فكل حافز بيئي ليس منحة مالية، بل اعتراف بحق الحياة في الاستمرار. وكل دعم للطاقة المتجددة هو إعلان إيمان بأن الأجيال القادمة تستحق أن ترى شمسها دون دخان.

التحول الأخلاقي في مفهوم السياسة البيئية يكمن في تغيير السؤال: لم نعد نسأل: كم سيكلفنا الحفاظ على البيئة؟ بل كم سيكلفنا إهمالها؟ هذه النقلة من الحساب إلى الوعي تمثل بداية تشكّل الضمير الكوكبي. فالتشريع البيئي هو الأخلاق حين تلبس ثوب القانون، وهو القانون حين يستعيد روحه الأخلاقية. وحين تفرض الدولة ضريبة خضراء، فإنها لا تعاقب الملوِّث، بل تدعو إلى الصلاة المدنية الكبرى: أن يتشارك الإنسان مع الآخرين في عبء الحفاظ على الحياة.

فالضريبة ليست دائمًا عبئًا، أحيانًا تكون التزامًا يُدفع نقدًا. إنها تعبير عن المسؤولية الجماعية تجاه ما هو مشترك، نحو الأنهار التي لا تملك صوتًا، والأشجار التي لا تملك لوبيات، والكائنات التي تشاركنا الوجود في صمت مهيب. حين يدفع الإنسان من أجل أن تبقى الحياة ممكنة، فإنه لا يمارس الاقتصاد بل يمارس الوجود.

التجارب العالمية تُظهر أن الإرادة السياسية قادرة على تحويل المستحيل إلى واقع. ألمانيا، التي كانت رمزًا للصناعة الثقيلة والتلوث، تحولت إلى دولة يقف نصف كهربائها اليوم على أكتاف الرياح والشمس. الدنمارك لم تكتفِ بالتشريعات، بل جعلت من الحياد الكربوني أسلوب حياة جماعي يتخلل المدارس والمنازل والفكر العام. الدرس الأعمق من هذه النماذج أن التحول البيئي لا يبدأ من التقنية، بل من الرؤية، ولا يتحقق بالقوانين وحدها، بل بالثقافة التي تؤمن أن البقاء في هذا الكوكب فعل أخلاقي قبل أن يكون إنجازًا هندسيًا.

الاقتصاد الأخضر هو شكل من الوجود-مع-العالم لا الوجود ضده. إنه استعادة للانسجام بين الإنسان والكل. فـالطبيعة ليست موردًا، بل شريكًا في خلق الحياة؛ والاستهلاك ليس غاية، بل وسيلة لتوازن الوجود؛ والنمو ليس فضيلة مطلقة، بل حركة دائرية تعيد للعطاء قدسيته. في الاقتصاد الأخضر، يصبح الزمن نفسه قيمة أخلاقية: الحاضر مسؤول عن المستقبل، والمستقبل ليس امتدادًا للآن بل أمانة في أعناقنا.

إن أخطر ما في الاقتصاد التقليدي أنه فصل الثروة عن الضمير، بينما الاقتصاد الأخضر يعيد للثروة معناها الإنساني: طاقة للحياة لا وسيلة للهيمنة. لذلك، فالمعركة البيئية ليست بين صناعات قديمة وجديدة، بل بين رؤيتين للعالم: رؤية تعتبر الأرض شيئًا، وأخرى تراها كائنًا.

الاقتصاد الأخضر ليس إصلاحًا تقنيًا، بل فعلًا وجوديًا عميقًا: مقاومة فلسفية ضد الانتحار الجماعي الذي تمارسه البشرية باسم النمو. هو تذكير بأن الحياة لا تُقاس بما ننتجه من سلع، بل بما نُبقيه من حياة. حين نزرع شجرة بدل أن نحرقها، نحن لا نحافظ على البيئة فقط، بل نحافظ على المعنى نفسه الذي يجعل الوجود جديرًا بالاستمرار.

وكما قال روبرت سوان: “أعظم خطر على كوكبنا هو الاعتقاد بأن شخصًا آخر سينقذه”.

الاقتصاد الأخضر هو إعلان جماعي بأن الإنقاذ مسؤولية الجميع، وأن السياسات ليست نصوصًا بل ضمائر. هو الفعل الأخلاقي الذي يربط حب الحياة بالوعي بأننا لسنا ورثة الأرض، بل رعاتها. فالاستدامة ليست مشروعًا تنمويًا، بل رؤية أنطولوجية جديدة: أن نعيش دون أن ننهب، وأن نُنتج دون أن نُدمّر، وأن نتقدّم دون أن نرثي أنفسنا في الطريق. فالعظمة في النهاية ليست أن نغزو الكواكب، بل أن نحافظ على هذا الكوكب الوحيد الذي يجعلنا بشرًا.

#الهدف #ملف_الهدف_الاقتصادي #الاقتصاد_الأخضر #الاستدامة #السياسة_البيئية #الضمير_الكوكبي #الطاقة_المتجددة #البيئة #المسؤولية_الجماعية #أنطولوجيا_الوجود

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.