سلسلة: ثقافة السلام في زمن الحرب الدائمة (من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)

صحيفة الهدف

أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

مقدمة السلسلة: (لا تنتظر حتى تنتهي الحرب لتُحب، بل أحب كي تنتهي الحرب)

في عالم يبدو فيه العنف لغته الأولى، والصراع تاريخه الوحيد، والكراهية جغرافيته الأوسع، تأتي هذه السلسلة محاولةً لفهم المستحيل، كيف نصنع السلامَ في قلب العاصفة؟

ليست هذه مجرد سلسلة عن السلام، بل هي رحلة في تشريح جنون الحرب، واستكشاف مناطق النور الخافت في النفس البشرية، وبناء فلسفة حياة في زمن الموت. نحن لا نتحدث عن سلام الضعفاء، بل عن سلام الأقوياء الذين يملكون الشجاعة ليكونوا إنسانيين عندما تكون الوحشية أسهل الخيارات. لا عن سلام المستسلمين، بل عن سلام المقاومين الذين يرفضون أن يصبحوا نسخاً مكررة من جلاديهم.

لماذا هذه السلسلة الآن؟: لأننا نواجه ظاهرة فريدة، حرب دائمة أصبحت هي (الطبيعي الجديد). حرب تتعدد أشكالها:

– حرب بالرصاص.

– حرب بالكلمة.

– حرب بالصورة.

– حرب بالصمت

هي حروب تصنع وعيًا مزيّفًا وتسرق من الإنسان قدرته على الحلم. وفي خضم هذا كله، ضاعت لغتنا عن السلام. أصبح السلام كلمةً باهتة، طوباوية، ترفاً فكرياً. هذه السلسلة محاولة لاستعادته كفعل مقاومة، كخيار وجودي، كضرورة حياتية. لقد كشفت تجاربنا العربية الحديثة، من الخرطوم إلى غزة، أن السلام لا يُمنح، بل يُصنع وسط الركام. ففي فلسطين التي تعلّمنا فيها أن السلام لا ينفصل عن العدالة، الى السودان، حيث يتجلى التحدي في البحث عن سلام يحفظ الكرامة ويعيد بناء النسيج الاجتماعي المنهك، سلام لا يقوم على نسيان الجراح، بل على الاعتراف بها وتحويلها إلى طاقة للنهضة. يبقى السؤال: كيف نصنع سلامًا يحفظ الكرامة ولا يفرّط في الذاكرة؟

ماذا ستجد في هذه السلسلة؟ :(ليست وصفات جاهزة، بل أسئلة مؤرقة، ليست حلولاً سحرية، بل مسارات معقدة، ليست وعظاً أخلاقياً، بل تحليلاً وجودياً، ليست حنيناً للماضي، بل بناءً للمستقبل، من السلام الداخلي إلى السلام العالمي، من التصالح مع الذات إلى المصالحة مع الآخر، من ذاكرة الجراح إلى ذاكرة الأمل.

هذه السلسلة ليست للضعفاء، بل للذين يملكون الشجاعة لمواجهة أسئلة صعبة:

– كيف تسامح من قتل أحباءك؟

– كيف تتعايش مع من مختلف معك جذرياً؟

– كيف تبني مستقبلاً في ظل ماضي دموي؟

السلام الذي نعنيه ليس غياب الحرب، بل هو:

– شجاعة الاعتراف بالآخر.

– نضج قبول الاختلاف.

– حكمة تحويل التنوع إلى قوة.

– إبداع صناعة الحياة من رحم الموت

في عالم يدفعنا لنكون إما جلادين أو ضحايا، تقدم هذه السلسلة خياراً ثالثاً، في أن نكون بشراً.

فلنبدأ الرحلة بما قاله (ألبرت أينشتاين) 🙁 لا يمكن حل المشاكل باستخدام نفس العقلية التي أوجدتها).

السلام كفعل مقاومة: إعادة تعريف السلام في زمن الحرب   (1 – 9 )

(لا سلام مع الاستعمار، ولا حياد بين الحق والباطل) — الأستاذ ميشيل عفلق. ولعل ما نعيشه اليوم في الوطن العربي من حروب وانقسامات يجعل من السلام فعلًا من أفعال الشجاعة لا الضعف.

في زمنٍ تتحول فيه الحروب إلى (طبيعية جديدة)، والصراعات إلى لغة وحيدة للحوار، يصبح الحديث عن السلام ضرباً من الهرطقة أو أحلام اليقظة. لكن الحقيقة الأعمق تكمن في أن السلام في زمن الحرب هو أقسى أنواع المقاومة، هو البقاء إنساناً عندما يسهل أن تتحول إلى وحش.

السلام ليس مجرد غياب الحرب، كما أن الصحة ليست مجرد غياب المرض. إنه حضور قوي لإنسانيتنا في لحظة تحاول فيها الحرب أن تسلبنا إياها. إنه مقاومة لغريزة العنف الكامنة فينا جميعاً، مقاومة لثقافة الكراهية التي تُغذّيها آلات الحرب، مقاومة لسياسة الاستقطاب التي تريدنا إما معها أو ضدها. السلام هو أن ترفض أن تصبح صورةً من عدوك. أن تحتفظ بإنسانيتك عندما يفقد الجميع إنسانيتهم. أن تظل قادراً على الحب عندما تصبح الكراهية بديهية.

في ظل الحرب، يتحول السلام من حالة سياسية إلى خيار وجودي. من مسألة دبلوماسية إلى مسألة حياة أو موت للروح. يصبح قراراً بالحياة في وجه ثقافة الموت، وقراراً بالبناء في زمن الهدم، وقراراً بالأمل في ظل اليأس. كما قال سارتر: (الإنسان محكوم عليه بالحرية)، فإننا في زمن الحرب محكومون بالسلام كخيار وجودي. هو قدرنا أن نختار الإنسان فينا، حتى عندما تدفعنا الظروف لاختيار الوحش.

وهنا تنكشف لنا المفارقة العميقة: هناك سلام يستسلم، وآخر ينتصر. السلام المستسلم هو قبول الهزيمة، هو التنازل عن الكرامة مقابل الأمان، هو القبول بالذل مقابل البقاء، هو بيع المستقبل للحصول على الحاضر. أما سلام الندية فهو الاعتراف بالآخر دون تنازل عن الذات، هو القبول بالاختلاف دون فقدان الهوية، هو البحث عن القواسم دون إذابة الخصوصيات. إنه ذلك السلام الذي يقول: (أعترف بك كما أنت، وأطلب منك أن تعترف بي كما أنا). كيف نعترف بالآخر دون أن نتنازل عن أنفسنا؟ كيف نقبل المختلف دون أن نخسر المتماثل؟ هذه هي المعادلة الوجودية التي يحاول سلام الندية حلها.

إذا كانت الحرب تستخدم السلاح لمقاومة الجسد، فإن السلام يستخدم الكلمة لمقاومة الصمت، والجمال لمقاومة القبح، والأمل لمقاومة اليأس. إنه فن المقاومة الناعمة الذي مارسه غاندي عندما قاوم الاستعمار باللاعنف، ومانديلا عندما قاوم العنصرية بالمصالحة، والمقاومة الثقافية عندما تحارب محو الهوية بالإبداع.

السلام في النهاية ليس شعاراً نرفعه، بل خيار نعيشه كل يوم. في نظرتنا للآخر، في كلمتنا للغريب، في أملنا بالمستقبل. في زمن يحاولون فيه قتل الإنسان فينا، يصبح السلام أعلى درجات التمرد. هو أن تظل بشراً عندما يسهل أن تتحول إلى رقم في حرب، أو إلى كراهية في قلب، أو إلى يأس في روح. السلام هو أن تختار الحياة، عندما يكون الموت أسهل الخيارات. هو أن تختار الأمل، عندما يصبح اليأس بديهياً. هو أن تختار الإنسان فيك، عندما تصبح الوحشة غالبة. وهنا تبرز أهمية الثقافة والتعليم كأدوات لترميم الوعي الجمعي. فحين تتبنى الجامعات والمراكز الثقافية خطاب التسامح النقدي، يتحول السلام من شعار إلى ممارسة اجتماعية واعية.

إن السلام الحقيقي يبدأ من الداخل، من ذلك الصوت الخافت الذي يهمس في أعماقنا: (أنت إنسان، فتصرف كإنسان). حتى في زمن الحرب، حتى في وجه الموت، حتى عندما يبدو العالم وكأنه قد نسي معنى الإنسانية. ففي زمنٍ تتكاثر فيه الحروب، يصبح السلام آخر أشكال المقاومة الممكنة، وأول ملامح الإنسانية الباقية. فالسلام ليس حلمًا للملائكة، بل قرارًا للناجين الذين اختاروا أن يبقوا بشرًا.

يتبع لطفاً،،،،،،،

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.