تُعد المجموعة القصصية “ذكاء اصطناعي” للروائي والقاص السوداني منتصر منصور من أميز الكتابات السردية التي غاصت عميقًا في لجّة البحر الأسود لحرب السودان الأخيرة، حيث تطرح هذه القصص، في لحظة تنوير باهظة التكاليف، أدقَّ تفاصيل تحولات النفس البشرية بين الأمل في الحياة وشبح الموت الذي يخيم على أزمنتها وأمكنتها، والتي جاءت في أحايين كثيرة عجائبية ومذهلة.
جاءت المجموعة القصصية “ذكاء اصطناعي”) التي تضم 11 قصة قصيرة) كمخاضٍ عسير للسرد المضاد لانكسارية حركة تدفق الوعي بكارثية الحرب على الإنسان، أعزلًا كان أو مدججًا بالسلاح. ونرى كيف تجوّل الكاتب منتصر منصور بين الذاكرات المشتركة بين القاتل والمقتول، أو الجلاد والضحية، لينفرد بوجه الحرب الكالح وهو يكشر عن أنيابه كذئبٍ مسعور.
في قصة “الأسير رقم ستة عشر”، وهو الاسم الكودي لأسيرٍ فقد كل شيء في حياته الطبيعية، ولم يعد يملك شيئًا سوى اكتشافه أن هناك ذاكرة مشتركة بينه وبين الجنجويدي المسلح الذي يحرس الكركون حيث يُعتقل. اشتغلت هذه القصة على مضمون ما كانت تنوء به هاتان الذاكرتان من آمال وطموحاتٍ تشكلت قبل أن ينخرطا في تداعيات هذه الحرب المدمرة. وبين الأحلام الفردية وجرف المصالح والأهداف العليا للجماعة المتسلطة، تموت الإنسانية داخل هذا المقاتل الذي كان من المفترض أنه إنسان، فيتوحد القاتل والمقتول في مصير واحد.
أنسنة الحرب أو تجييرها لصالح أي قيمة أخلاقية تخص أحد أطرافها، هذا ما عمل الكاتب منتصر منصور على هدمه من الأساس. فمنذ بداية انغماسه في هذا السرد القصصي المشوق، كان يرمز إلى الإنسان بما يقابله في الشرط الوجودي في اللحظة بأحد الحيوانات، كناية عن عدم أخلاقيتها وعدميتها بشكل جذري. ولن يكون هناك سقف للتهكم والسخرية أعلى من أن يجيب مواطن أعزل عن اسمه ومهنته أمام ميليشيا تقف على ارتكاز في نهاية الشارع بإيماءةٍ تحاكي صوت القط: (مياو..) فقط.. (مياو)، لا شيء آخر!
وترتبط هذه القصص من حيث الزمان والمكان بزمن الحرب والسرديات التي مهدت لها على مستوى التنظير، لكي تصبح واقعًا غير محتمل بعد ذلك. كما أن هناك مرجعية تاريخية شفاهية طالما استنطقها الكاتب في بحثه عن تعريفٍ يتسق مع الواقع اللاإنساني الذي انسحق فيه الإنسان السوداني بفعل عدمية وهمجية مقاتلي الدعم السريع.
وفي قصة “السيارة المفقودة” نقرأ نصًا يشبه في شعريته المتدفقة بلا انتظام ما فعلته تاتشرات الجنجويد، وهي عربات دفع رباعي قتالية سيئة السمعة في هذا البلد الموبوء بالحروب الأهلية منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي تجوب شوارع الخرطوم ليلًا ونهارًا؛ لتنقلب إلى معكوسها داخل النفس البشرية، ولنرى حجم الفاجعة في الحوار:
– لقد سرقوا منك حبيبتك.
– بل سرقوا منك حبيبتك ووطنك!
وتتجلى في قصة “الشاشة السابعة” جوانب فكرية عميقة ذات صلة بمسألة تكييف عقل الإنسان/ الضحية على معايشة مفاهيم سطحية تتمحور حول فكرة النصر والهزيمة في الحرب، مع التستر على المستفيد الحقيقي منها. وقد أبدع الكاتب في توظيف الشاشات بمحمولاتها السياسية والثقافية في تحليل موضوعة الحرب والتلاعب الإعلامي بعقول الضحايا، وهي تجربة واقعية عايشناها طوال العامين الماضيين ولا نزال نحدّق في اتجاهها.
أما القصة الرئيسة “ذكاء اصطناعي”، وهي عنوان المجموعة، فهي من أكثر القصص تعقيدًا وتشابكًا مع الأسئلة المفتوحة التي طرحتها الحرب في الوعي الجمعي السوداني. فلا أحد يموت حقًا، حتى وإن تأكد للجميع أنه كان من بين الهالكين في الميدان؛ إنه ليس بعثًا جديدًا، بل تضليل وشعوذة تتوسل بتكنولوجيا الإعلام لإعادة إنتاج صورة القائد الميت. وللقصة صلة فكرية بطريقة تفكير طائفي حول عودة الإمام المنتظر، وهي فكرة متجذرة في المجتمعات التي جاء منها الدعم السريع من صحرائهم القاحلة إلى أرض النيلين منذ مئات السنين.
ومن الجوانب اللافتة في هذه المجموعة أن الكاتب لم يجعلها توثيقًا سطحيًا لما عاثه الدعم السريع في الخرطوم من فساد وتدمير، بل صاغها في نصوصٍ سردية متصلة بأبعاد إنسانية مشتركة، تربطها خيوط دقيقة تجعلها وحدة متجانسة. فهي تستبطن موضوعة الحرب وتعرّيها، وتكشف عمق الشرخ داخل الذات الإنسانية لبطلها الذي استتر خلف ضمير المتكلم.
ولا يليق بالإنسان الأعزل الذي تسحقه آلة الحرب الإعلامية القاسية سوى أن ينطق، وأن يصدر صوتًا قويًا، حتى وإن عبّر عنه بصوت حيوان يقول (مياو)، في إحالة رمزية إلى مقولة تُنسب لقائد الدعم السريع حميدتي الذي هدد خصومه بأن تتحول الخرطوم إلى مأوى للقطط بعد الحرب.
ومما يدعو للاحتفاء بهذه المجموعة القصصية “ذكاء اصطناعي” أن الكاتب منتصر منصور قد قام بهندستها وتطريزها وتلوينها في هذا السفر الرشيق، ولا يزال الضماد على الجرح، وجرح الوطن المفتوح ينزف. إنها مجموعة غير منتهية، مثلها مثل هذه الحرب التي تتصرف كسفينةٍ جانحة بعيدًا عن الموانئ، إنها ذاكرة الحرب الدامية التي نعالجها بالوعي، بل بالمزيد من الوعي.

Leave a Reply