زاوية مضيئة كيف الحال والأحوال؟ إلى “أخباركم؟”.. حين تخلينا عن السؤال الحقيقي

صحيفة الهدف

“الزول بيسأل عن زول، إن غاب يفتش ليه أثر”
محجوب شريف
نبحث ونعبر بالسؤال الصادق عن الغير، والبحث عن أحواله حين يغيب، لا لمجرد الفضول، بل بدافع المحبة والاهتمام الأصيل.
كانت العبارة السودانية الشهيرة “كيف الحال والأحوال؟” أشبه بجسر إنساني عريض، نعبر عليه إلى قلب الآخر، ونلج به إلى داخله، لا للتدخل في خصوصياته واقتحامها، بل لنتعاطف، لنشارك، ونتكاتف.
كانت تحوي في داخلها رغبة صادقة في المعرفة من أجل المؤازرة، وميلًا طبيعيًا نحو التراحم، وتعبيرًا عن أن “أمرك يهمني، وإن لم تذكره لي، فإني أسأل”..
لكن، شيئًا فشيئًا، بدأت تلك العبارة تختفي.. وحل محلها تعبير جاف” : أخباركم؟”
كأننا لم نعد نطيق سماع “عرضحال”.. كأن السؤال أصبح عبئًا، والجواب صار تكلفة، والمواساة صارت حملًا إضافيًا. فهل السبب أننا لم نعد قادرين على تحمل تبعات العرضحال؟ أم أننا، بوعي أو بغيره، صرنا نمارس انسحابًا هادئًا من حياة الآخرين؟ أم أن العالم صار سريعًا حد أن السؤال الطويل لم يعد له مكان في الذاكرة أو في جدول اليوم؟
بين الماضي والحاضر:
في ماضٍ غير بعيد، كانت عبارة “كيف الحال والأحوال؟” تحمل كل معاني الألفة والمحبة والتفقد والحرص. لم تكن فقط مجاملة، بل كانت وعدًا ضمنيًا: “إن شكوت، سأسمعك، وإن احتجت، سأقف معك؛ وأنا سندك وعضدك في كل شيء”.
لكن اليوم، حين نبادر بـ: “أخباركم؟” فنحن نسأل عن العناوين، لا التفاصيل، عن الخارج، لا الداخل، عن ما يظهر، لا ما يُوجع.
والأخطر أن هذا التحول في اللغة يعكس تحولًا أعمق في الشعور الجماعي، وفي استعدادنا لتحمل مسؤولية السؤال.. ومسؤولية الجواب!
لماذا هجرنا السؤال الحقيقي؟
لعلنا هجرنا “كيف الحال والأحوال؟” لأننا نعلم أن الرد لن يكون بسيطًا، وأنه قد يكشف عن ضيق، أو وجع، أو طلب.. ونحن في زمن أصبح فيه الناس يشفقون من السؤال، خشية أن يضطروا إلى الفعل بعده..
أصبح السؤال يُحسب بميزان العبء، لا ميزان القلب. فتحولنا إلى “أخباركم؟”، لأنها أخف، وأسرع، ولا تلزمنا بشيء.
لكن، أيّ مجتمع ذلك الذي يخشى من السؤال، لأنه قد يضطر إلى التعاطف؟ وأيّ علاقة تلك التي لا تحتمل حتى شحنة مشاعر قادمة مع جواب بسيط؟
ما الذي خسرناه؟ حين استبدلنا السؤال الحقيقي بالسطحي، خسرنا: الدفء الإنساني.. الرابطة التي كانت تشدنا لبعضنا. الطمأنينة التي يشعر بها الآخر فقط حين يُسأل: “كيف حالك؟” ويُنتظر الجواب.
خسرنا العمق في العلاقات، وصرنا نكتفي بالسطح.. أو نرضى به.
دعونا نعود للسؤال الحقيقي: في سوداننا الحبيب، عاش أهله على التكافل، وتعوّدوا على سؤال “يا زول مالك؟”، و”خير؟”، و”شن حالك؟”، و”كيفنك؟”، و”أصبحتوا؟”، و”قيلتوا كيف؟”، و”امسيتوا؟”. ليس من المقبول، ومن الصعب أن نتنازل عن هذه الروح مقابل عبارات مصقولة لا تحمل شيئًا خلفها.
السؤال الحقيقي لا يُفقر السائل، ولا يُثقل كاهله، بل يُغني الجميع. فلنعد نسأل بعضنا”: كيف الحال.. والأحوال؟”
ليس فقط لأننا نريد أن نسمع الجواب، بل لأننا مستعدون أن نكون جزءًا من الجواب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.