وهمُ الأمان.. عندما تعشق الضحية جلادها

صحيفة الهدف

نحن الكائنات التي تتعلّق بالسلاسل حين يطول بها الأسر، نخاف الحرية كما لو كانت هاوية .نخترع للجلاد وجهًا أبويًّا، ونسمّي خوفنا حكمة، ونقنع أنفسنا أن العتمة أرحم من ضوءٍ لا نعرف إن كان سيُبقي لنا ملامحنا. فبدل أن نثور على اليد التي صفعتنا، نُقبّلها لأنها، ببساطة، لم تقتلنا بعد.
هكذا تتحوّل الذاكرة إلى قفصٍ من الحنين المسموم: نشتاق إلى من أفسدنا، لا لأنه جميل، بل لأن قسوته مألوفة .نلعن السوط سرًّا، ونبكي غيابه حين يتوقّف. نتحدّث عن الظلم بوصفه قدرًا، وعن النجاة كأنها ترف.
ونخاف التغيير أكثر مما نخاف الطغيان.
ليست الكارثة في وجود الجلاد، بل في اللحظة التي نصير فيها شهود دفاع عنه، لأننا فقدنا القدرة على تخيُّل حياةٍ من دونه. يومها.. لا نكون ضحايا فقط، بل شركاء في صيانة القيد، نحرس أبوابه من الداخل، ونهاب باب الخروج كأنه باب الفناء.
ولأن الإنسان كائنٌ يفضِّل المعنى على السلامة، فإنه يُعيد تشكيل ألمه حتى يصبح منطقًا قابلًا للعيش .يتماهى مع قيوده كي لا يشعر بأنه مهزوم، ويمنح السجن صفة “الوطن”، والمنفى صفة “الحماقة”، والموت البطيء صفة “الاستقرار”. يتحدّث عن الجلد بوصفه تربية، وعن الخوف بوصفه فضيلة.
هكذا، يصبح الظلم جزءًا من الهوية، لا مجرد حادث عابر.
إن أخطر ما يفعله القمع ليس أنه يسلبك صوتك، بل أنه يقنعك أن صمتك هو خيارك الحر. وحين يحدث ذلك، يتحوّل جلادك إلى ضرورة وجودية: تخاف سقوطه، كما يخاف الأسير اتساع الباب.
عندها لا تُصبح المشكلة في الاستبداد، بل في “الوهم بأننا لا نستحق سواه”. وربما ليست المأساة أن نُستَعبَد، بل أن نخشى النجاة.
أن نقف أمام الباب مفتوحًا، فنرتعب لا من الخروج، بل من احتمال أن نكون أحرارًا فعلًا.
فالحرية ليست وعدًا بالطمأنينة، بل امتحانًا للروح العارية بلا وصيّ ولا قيد .لهذا، لا يولد النور من سقوط السلاسل فقط.. بل من لحظة نجرؤ فيها على الشكّ في أنها كانت أمانًا، لا قبرًا.
ذلك هو السؤال الذي لا يجيب عنه أحد نيابةً عنا: هل نخاف الجلاد.. أم نخاف أن نكتشف من نكون من دونه؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.