طبيعة الصـ.ـراع في الأمة العربية: من الوهم الطبقي إلى المـ.ـعركة الوجودية (قراءة فلسفية في جدل الوعي والتحرر)

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

(الصـ.ـراع في الأمة العربية ليس صـ.ـراع أفراد أو طبقات، بل هو صـ.ـراع بين إرادة الحرية وقوى التمزّق والاستلاب) — من فكر حزب البعث

تمهيد فلسفي: من جدل الوعي إلى جدل التحرر

في فلسفة هيغل، يُعرّف الصـ.ـراع بوصفه لحظةَ الوعي بالذات: فـ(العبد والسيد) ليسا فئتين اجتماعيتين فقط، بل صورتان لرحلة الإنسان في اكتشاف حريته.

هذا الوعي الجدلي بالذات هو ما افتقدته الأمة العربية حين استعار مثقفوها أدوات التحليل الماركسي دون إدراك اختلاف شروط النشأة التاريخية بين الصـ.ـراع الأوروبي والصـ.ـراع العربي.

فالماركسية نشأت من رحم التحوّل الصناعي، بينما الصـ.ـراع العربي نبع من التحوّل الاستعماري.

الأول كان صـ.ـراعًا على توزيع الثروة، أما الثاني فهو صـ.ـراع على امتلاك الإرادة والهوية.

وإذا كان هيغل قد رأى في صـ.ـراع العبد والسيد لحظة ولادة الوعي، فإن الأمة العربية تعيش لحظة مماثلة، لكن على مستوى وجودي أعمق: صـ.ـراع بين إرادة الوجود وإرادة الإلغاء. فما يعيشه الانسان العربي اليوم ليس مجرد استغلال اقتصادي، بل هو اغتراب وجودي عن ذاته وتاريخه ومصيره. ومن هنا، فإن السؤال الفلسفي الحقيقي الذي يواجه الأمة ليس:

(من يملك وسائل الإنتاج؟). بل: (من يملك القدرة على أن يكون فاعلًا في التاريخ لا مفعولًا به؟)

إن الصـ.ـراع العربي ليس انعكاسًا لجدلية الرأسمال والعمل، بل هو جدلية الوجود واللاوجود؛ صـ.ـراع بين أمةٍ تحاول أن تستعيد وعيها التاريخي، وقوى عالمية تُصرّ على إبقائها في حالة استلابٍ دائم.

مقدمة: (سؤال الوجود قبل سؤال الصـ.ـراع):

ما أقسى أن تعيش أمة وهي تبحث عن ذاتها في مرايا الآخرين. فالفكر الماركسي، بكل ثوريته، كان إجابة عن أسئلة أوروبا الصناعية: عن العدالة في التوزيع، وعن الإنسان العامل في مواجهة رأس المال.

لكن حين يُنقل هذا الفكر إلى واقعٍ لم يُبنَ على الصناعة بل على الاحتلال، يصبح كمن يقيس الحرية بمسطرة الحديد. إن الأمة العربية لم تسأل قط (كم نملك؟) بل (من نكون؟)

ولم يكن صـ.ـراعها حول فائض القيمة، بل حول فائض التاريخ المسلوب.

أولاً: الوهم الطبقي وتشريح الغياب:

لقد راهنت النخب اليسارية العربية على (الطبقة) كفاعل للتغيير، لكنها تجاهلت أن الطبقة في مجتمعٍ مستعمَر ليست فاعلًا بل مفعولًا به. الاستعمار لم يُنتج برجوازية وطنية ولا طبقة عاملة حقيقية، بل أنشأ نخبًا وسيطة تمارس السلطة نيابةً عن الخارج.

كما غابت عنها حقيقة أن الطبقة في المجتمعات المستعمرة تختلف جذريًا عن نظيرتها في المجتمعات المستقلة. ففي أوروبا، نشأت الطبقات من رحم التطور الصناعي الطبيعي، أما في عالمنا العربي، فقد ولدت الطبقات مشوهة: من رحم التبعية، وغرفة عمليات الاستعمار، وغرف نوم التجزئة.

الاستعمار لم يخلق طبقات، بل خلّق تابعين. لم يصنع بروليتاريا، بل صنع شعبًا يبحث عن هويته بين أنقاض جغرافيا ممزقة. العامل العربي لم يدخل المصنع بوصفه منتجًا للتاريخ، بل بوصفه ضحية لتاريخٍ مفروض.

والبرجوازي العربي لم يصنع الرأسمال، بل ورثه من صفقات التبعية والتجزئة.

من هنا، يصبح الصـ.ـراع الطبقي في الوطن العربي وهماً نظرياً، لأن البنية التي أنجبته لم تُولد بعد، والبنية التي نعيشها هجينٌ استعماريٌّ بين اقتصاد التبعية وسياسة التجزئة.

والتجربة التاريخية خير شاهد، ففي مصر الخمسينيات، حاولت حركات يسارية تطبيق الصـ.ـراع الطبقي، بينما كانت الأمة العربية تواجه تحديات وجودية في مواجهة العدوان الثلاثي. وفي الجزائر، ذاب الصـ.ـراع الطبقي في بوتقة الثورة التحررية. هذه الأمثلة تثبت أن الأولوية كانت دائمًا للصـ.ـراع الوجودي.

ثانياً: الصـ.ـراع كمـ.ـعركة وجود: ويتمثل ذلك في التالي:

1. صـ.ـراع الإرادات: إن الصـ.ـراع في الأمة العربية هو أولاً صـ.ـراع إرادات لا صـ.ـراع مصالح:

أ‌. إرادة التحرر في وجه إرادة السيطرة

ب‌. إرادة الوحدة في مواجهة إرادة التفتيت

ت‌. إرادة الوعي في مواجهة إرادة التجهيل

إنه الصـ.ـراع الأبدي بين الحرية كقيمة والاستلاب كقدرٍ مفروض.

2. معادلة الوجود: حين تُسلب الأمة العربية قرارها السيادي، تصبح العدالة الاجتماعية مجرّد حلمٍ جميل في كتاب مدرسي. فالتحرر القومي ليس شعارًا سياسيًا، بل الشرط الوجودي لكل عدالة ممكنة. إننا لا نحـ.ـارب من أجل توزيع الثروة، بل من أجل استعادة حقّنا في أن نقرر كيف نصنعها.

3. الجغرافيا المتوحشة: لقد تحوّلت الجغرافيا العربية، منذ سايكس–بيكو، إلى مختبرٍ استعماري لترسيم العجز الجمعي. الحدود المصطنعة ليست خطوطًا على الرمل فقط، بل قيود على الوعي. وما لم نكسر تلك الحدود الذهنية قبل الجغرافية، سنظل نُعيد إنتاج تجزئتنا بأيدينا.

ثالثاً: فلـ.ـسطين – المِرآة التي تكشف الجوهر:

تشير إحصائيات وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) إلى أن 68% من سكان قطاع غـ.ـزة يعيشون تحت خط الفقر، لكن هذا الفقر لم يولد صـ.ـراعًا طبقيًا داخليًا، بل وحّد الفلسـ.ـطينيين في مواجهة مشروع استعماري يستهدف وجودهم كله. هذه الحالة تقدم نموذجًا حيًا لطبيعة الصـ.ـراع الحقيقية. ففلـ.ـسطين ليست نزاعًا سياسيًا، بل تجسيدٌ أنطولوجي لطبيعة الصـ.ـراع العربي. ففيها تتـ.ـعرّى كل المفاهيم المستعارة:

1. الاحتلال لا يفرّق بين عاملٍ ومالك

2. الجدار لا يقيس الانتماء الطبقي

3. القصف لا يسأل عن مستوى الدخل

إنها المـ.ـعركة التي تكشف أن العدالة الاجتماعية بلا حرية وطنية هي عدالة للعبـ.ـيد، وأن الصراع الطبقي بلا تحرر قومي يتحوّل إلى ترفٍ نظريّ في ظل العـ.ـبودية.

رابعاً: البعث والبديل الحضاري: لم يكن حزب البعث مجرد حزبٍ سياسي، بل كان مشروعًا فلسفيًا لتحرير الإنسان العربي من الاغتراب — اغترابه عن ذاته وتاريخه ودوره في العالم.

لقد أعاد البعث تعريف المفاهيم الثلاثة الكبرى:

1. الوحدة: كاستراتيجية وجود: لا تحرر دون وحدة، ولا وحدة دون تحرر. الوحدة ليست شعارًا، بل شرط البقاء في عالم لا يرحم الضعفاء. فالوحدة ليست اندماج الأقطار، بل اندماج الوعي والمصير.

2. الحرية: كمدخل للعدالة: لا عدالة حقيقية تحت نير الاحتلال. الحرية بوابة العدالة، والتحرر شرط التحرر الاقتصادي، فالحرية ليست حرية التعبير، بل حرية القرار السيادي.

3. الاشتراكية: كخيار قومي: اشتراكيتنا ليست استيرادًا لماركسية غريبة، بل تعبير عن عدالتنا العربية المستمدة من تراثنا وتاريخنا.” فهي ليست استنساخًا لماركس، بل إحياءً لجوهر العدالة العربية القائمة على التكافل والكرامة.

اشتراكية البعث لم تكن أيديولوجيا، بل أنسنة الاقتصاد في ظل حرية الإنسان.

إنها محاولة لإعادة التوازن بين (الخبز والكرامة)، بين (العدالة والحرية).

خامساً: نحو إستراتيجية قومية للصـ.ـراع:

1. إعادة تعريف العدو:

أ‌. العدو ليس البرجوازي المحلي، بل الهيمنة التي تصنعه تابعًا.

ب‌. العدو ليس الفقر ذاته، بل نظام التبعية الذي يفرض شروطه.

والنضال لا يكون بإسقاط الأغنياء بل ببناء وعيٍ تحرريٍّ يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض والتاريخ.

2. أولويات الصـ.ـراع:

أ‌. التحرر القومي: استعادة القرار الوطني من قبضة الوصاية الأجنبية.

ب‌. الوحدة العربية: تجاوز جغرافيا التجزئة نحو وحدة المصير.

ت‌. العدالة الاجتماعية: تأسيس اقتصادٍ منتج يحقق الكرامة لا التبعية.

ويمكن رصد تجليات هذه الأولويات في:

أ‌. نجاح نموذج المقاومة في لبنان وفلسطين الذي وحّد كل الشرائح.

ب‌. فشل التجارب الطبقية في بعض الأقطار العربية التي أهملت البعد القومي

ت‌. نجاح تجربة الوحدة المصرية-السورية رغم قصرها كدليل على أهمية المشروع القومي.

3. فلسفة التغيير: الثورة لا تبدأ من الطبقات، بل من تحرر الوعي القومي.

فالأمة التي تفقد وعيها بذاتها، تُـ.ـقاتل في معـ.ـارك الآخرين.

إن الوعي القومي هو الشرارة التي تُحوّل الجماهير من كائنات اقتصادية إلى ذوات تاريخية فاعلة. لا نغير المجتمع بمعـ.ـركة طبقية، بل بإعادة بناء الوعي القومي. الأمة الواعية وحدها تستطيع خوض مـ.ـعاركها العادلة.

الخاتمة: (من سؤال الخبز إلى سؤال المصير): في زمن العولمة الرقمية، تغيّرت أشكال الصـ.ـراع: صارت الشركات جيوشًا، والخوارزميات أدواتِ احتلالٍ ناعم.

لكن جوهر الصـ.ـراع لم يتغير: إنه صـ.ـراع على الوعي والسيادة.

فالأمة التي لا تمتلك إرادة القرار، ستبقى تدور في حلقة مفرغة من (الصـ.ـراع الداخلي) الذي يستهلكها من الداخل. أما الأمة التي تعرف عدوّها الحقيقي، فإنها تبدأ أولى خطوات الحرية.

واليوم، ونحن نواجه تحديات العصر الرقمي، تبرز حاجة جديدة لقراءة الصـ.ـراع، فكما كانت الجغرافيا ساحة الصـ.ـراع في الماضي، أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة جديدة للمـ.ـعركة الوجودية. فالنظرية والمنهج البعثي، بفلسفته الشاملة، تقدم أدوات لفهم هذه المعـ.ـركة الجديدة دون الانزلاق إلى أوهام الصـ.ـراع الرقمي الطبقي.

من مـ.ـعركة الرغيف إلى مـ.ـعركة الكرامة، ومن جدل الطبقات إلى جدل الوجود، ومن وعي التبعية إلى وعي الحرية، تولد الأمم من جديد.

ملحق توثيقي وتحليلي ومراجع فكرية أساسية:

1. الأستاذ ميشيل عفلق – في سبيل البعث، دمشق، 1947. (طرح فيه البعث فكرة أن الحرية شرطٌ للعدالة، وأن العدالة لا معنى لها في ظل الاستعمار).

2. زكي الأرسوزي – الأمة العربية واحدة في الوجود والوعي، بيروت، 1951. (ركّز على البعد الأنطولوجي للأمة كوجودٍ سابق على الدولة، ومقابل للاستعمار).

3. ساطع الحصري – آراء وأحاديث في القومية العربية، القاهرة، 1958. (عرّف القومية بأنها وعيٌ بالانتماء قبل أن تكون نظامًا سياسيًا).

4. أنطون سعادة – نشوء الأمم، 1938. (قدّم قراءة فلسفية لمفهوم الأمة بوصفها ظاهرةً روحية – تاريخية، لا طبقية).

5. فرانز فانون – معذبو الأرض، 1961. (بيّن أن التحرر الحقيقي يبدأ من تحرر الوعي المستعمَر من صورة المستعمِر داخله).

6. أنطونيو غرامشي – دفاتر السجن، 1935. (مفهوم (الهيمنة الثقافية) الذي يفسّر كيف يفرض العدو خطابه حتى في عقول خصومه).

7. صادق جلال العظم – نقد الفكر الديني، 1969. (نقد البنية الفكرية التي تعيد إنتاج التبعية الفكرية والسياسية في المجتمعات العربية).

8. إدوارد سعيد – الاستشراق، 1978. (فضح آليات الهيمنة الثقافية التي تحوّل الشرق إلى (آخرٍ صامت) في سردية الغرب).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.