دعوا السودان يتنفس من جديد

صحيفة الهدف

بقلم: صلاح حسن عبد العزيز عيساوي

السودان اليوم ليس مجرد جغرافية منبسطة بين النيلين، بل جرح مفتوح على اتساعه… وطن يقف عند حافة الحياة، يتنفس بصعوبة وسط دخان الحرب، ويكابد الجوع والمرض واليأس في معركة يومية من أجل البقاء.

بلدٌ كان يُعرف بكرم أهله وسماحة وجوههم، بثقافتهم الغنية وصبرهم الأسطوري، أصبح اليوم مرآةً للوجع الإنساني بكل تفاصيله. فالحرب لم تكتفِ بتمزيق المدن، بل شرخت الروح السودانية ذاتها، وروّضت الأمل حتى كاد أن يختنق.

وطن أثقله الجوع والعوز

لم تعد المعيشة في السودان مجرد معاناة يومية، بل تحولت إلى حرب أخرى تدور في بطون الجائعين.

أسعار القمح والسكر والزيت والخبز قفزت إلى أرقام خرافية، حتى صار الحصول على وجبة متواضعة إنجازًا بطوليًا.

الرواتب إن وُجدت، فهي كظلٍّ باهت لا يكفي شيئًا. والمهن اندثرت أو تعطلت، والأسواق أضحت صامتة كالمقابر.

في شوارع الخرطوم ونيالا والفاشر ومدني، تسير الأمهات بخطى متثاقلة نحو المجهول، يحملن أطفالًا بوجوه شاحبة وأحلام صغيرة.

وفي أطراف المدن، يقف الآباء في طوابير انتظارٍ طويلة، ينتظرون فرصة عمل لا تأتي.

أسرٌ كاملة تقتات على وجبة واحدة في اليوم، وأخرى تتوسد الأمل في قادمٍ لا يُعرف إن كان سيأتي.

لقد أصبح الجوع في السودان ليس حالة طارئة، بل هو واقعٌ دائم، يقيم في البيوت كضيف ثقيل لا يرحل.

حين يصبح العلاج حلمًا بعيدًا

النظام الصحي في السودان، الذي كان هشًا حتى في أيام السلم، أصبح اليوم أطلالًا.

مستشفيات مدمّرة، صيدليات خاوية، وأطباء يعملون في ظلامٍ بلا كهرباء ولا أدوية، مدفوعين فقط بضميرهم الإنساني.

الملاريا، حمى الضنك، الكوليرا… أمراضٌ كانت عادية في الأمس، صارت اليوم أحكامًا بالإعدام على فقراء لا يملكون ثمن الدواء.

الناس يموتون بصمت في بيوتهم لأن الطريق إلى المستشفى يمرّ عبر الرصاص أو يحتاج إلى مالٍ لا يملكونه.

الأطفال الذين لم يعرفوا بعد معنى الطفولة، يعانون من سوء تغذيةٍ ينهش أجسادهم الصغيرة، وكبار السن يواجهون أمراضهم المزمنة بلا دواء.

في السودان اليوم، العلاج لم يعد حقًا، بل أصبح امتيازًا لمن يملك القدرة على البقاء.

وطنٌ ممزق وقلوبٌ مبعثرة

الحرب في السودان لم تدمّر الجدران فقط، بل هدمت معنى الوطن في قلوب الناس.

عائلات تشردت بين المدن والحدود، وأمهات يذرفن الدموع على أطفال ضائعين في المجهول، وآباء فقدوا بيوتهم وكرامتهم معًا.

أصبح السودان خريطة من الأسى، كل رقعةٍ فيها تحكي مأساة إنسان.

لقد سرقت الحرب من الناس الأمان، والانتماء، والكرامة، وحتى القدرة على الحلم.

ومع كل انفجارٍ جديد، يصرخ الوطن بصوتٍ خافت:

> إلى متى؟ متى يسكت هذا الجنون؟

لكنّ الطرفين المتحاربين ما زالا غارقين في صممٍ قاتل.

كلٌّ منهما يزعم أنه يقاتل من أجل الوطن،

بينما الوطن الحقيقي — وهو الشعب — يُدفن كل يومٍ تحت الأنقاض وفي صمت الخيام.

لا منتصر في حربٍ على النفس

لقد آن الأوان أن يفهم الجميع أن لا نصر في حربٍ يخسر فيها الشعب.

أن البنادق مهما علت أصواتها لا تُعيد بناء مدرسةٍ مهدمة، ولا تُشفي طفلاً من الجوع، ولا تُرجع أمًّا إلى بيتها.

إن وقف الحرب لم يعد خيارًا سياسيًا، بل هو واجبٌ أخلاقي وإنساني ووطني.

يجب أن تتوقف هذه الحرب العبثية فورًا، فكل طلقةٍ تُطلق اليوم، تُصيب قلب الوطن مرتين: مرة في جسده، ومرة في روحه.

السودان لا يحتاج مزيدًا من المقاتلين، بل يحتاج إلى رجالٍ ونساء يملكون شجاعة السلام، يضعون السلاح جانبًا ليحملوا بدلًا عنه رغيف الخبز، وقطرة الدواء، ودفتر المدرسة.

نداء الإنسانية

يا عالم، يا من تتابعون من خلف الشاشات: لا تجعلوا السودان يموت بصمت.

إنه يستغيث بضمير البشرية جمعاء.

فما يحدث هناك ليس شأنًا داخليًا، بل جرحٌ إنساني مفتوح على مرأى من الجميع.

يحتاج السودان اليوم إلى استجابة عاجلة — لا بيانات ولا تصريحات — بل ممرات إنسانية مفتوحة، ومساعدات تصل إلى منكوبيه بلا عوائق،

إلى أطباءٍ، وأغذية، ومأوى، وأمان.

وعلى المجتمع الدولي، والدول العربية والإفريقية والإسلامية، أن تدرك أن السكوت جريمة، والتأخر تواطؤ بالصمت.

وطن ما زال ينبض بالأمل

ورغم كل هذا الحزن، لم تنطفئ شعلة الأمل في قلوب السودانيين.

ما زالوا يتقاسمون اللقمة القليلة، يواسون بعضهم، ويغنون للوطن بين الدمار.

شعبٌ يبتسم رغم الألم، ويصلي رغم الخراب، ويؤمن بأن الفجر سيأتي مهما طال الليل.

لكن الصبر وحده لا يكفي.

لا يمكن لأي شعب أن يعيش على الانتظار إلى الأبد.

لقد حان الوقت لأن يتنفس السودان من جديد — أن تُغسل أرضه بالسلام، لا بالدم، وأن يُبنى من جديد على أساس العدالة والرحمة والأمل.

فشعب السودان لا يطلب المستحيل:

فقط أن يعيش بكرامة، يأكل، يُعالج، يتعلم، ويحلم بوطنٍ يسوده السلام.

حتى ذلك اليوم، سيظل السودان جريحًا،

ينتظر من يضمده، لا من يزيد نزيفه.

ينتظر أن يُستبدل صوت الحرب بصوت الحياة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.