من الانتفاضة إلى النهضة – دروس في التحرر والنهوض القومي (3 – 4)

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

مقدمة:

لا تبدأ الثورات بالرصاص، بل تبدأ بالفكرة. والفكرة حين تُصبح وعيًا جماعيًا تتحول إلى طاقة تاريخية لا يمكن قمعها. لقد أثبتت التجارب السودانية والعربية أن التحرر ليس فعلًا سياسيًا فحسب، بل عملية وعي قومي عميق؛ تبدأ بإدراك الذات، وتنتهي بتحريرها من الخوف ومن القبول بالأمر الواقع، كما أشارت بدقة افتتاحية صحيفة (الهدف في 15/10/2025). لقد كانت لحظة مفصلية كشفت أن السلطة الحقيقية لا تُستمد من فوهة البندقية، بل من يقظة الإرادة الجماعية، وأن (الرفض) – كما وثقت الافتتاحية – (للدكتاتورية والتسلط والطغيان والأحادية) يمكن أن يكون أقوى من كل ترسانة عسكرية.

من السودان إلى فلسطين إلى الأحواز، تمتد خيوط هذه المقاومة الطويلة، لترسم على وجه الأمة العربية خريطة واحدة للتحرر، تؤكد أن الحلم والأمل العربي واحد، وأن الجرح واحد، وأن الذاكرة لا تموت طالما هناك شعب يرفض النسيان.

وهذا الوعي الذي نعنيه ليس مجرد إدراك للذات، بل هو تحوّل وجودي يجعل من الفرد جزءًا من مشروع جمعي. إنه الوعي الذي حوّل طلاب الجامعات في السودان إلى قادة ثورة، والذي جعل من شباب فلسطين روادًا في ابتكار أساليب المقاومة، والذي حافظ على اللغة العربية في الأحواز رغم عقود من التهميش.

أولًا: السودان وميلاد (العقل الثوري العربي):

منذ أكتوبر 1964، قدّم السودان نموذجًا فريدًا في صناعة التغيير السلمي عبر الإرادة الجماهيرية.

كانت ثورة أكتوبر أول إعلان عربي يقول للعالم: إن اللاعنف ليس استسلامًا، بل حكمة المقاومة حين تعي هدفها.

لقد هزمت الإرادة الشعبية الدبابات، لأن قوة الجماهير لا تأتي من العتاد، بل من المشروعية الأخلاقية والفكرية.

ومن أكتوبر إلى ديسمبر، تعلّم السودانيون والجماهير العربية من تجربتهم أن الثورات لا تموت، بل تتناسل؛ وأن النضال السلمي حين يُنظَّم يصبح سلاحًا استراتيجيًا يفكك منظومات الاستبداد ببطء، لكنه لا يخطئ هدفه.

ولعل أبلغ تجليات هذا العقل الثوري كان في انتفاضة ديسمبر الثورية 2018، حيث استطاع الشباب السوداني، مستفيدًا من تراكم خبرات أكتوبر وأبريل، أن يبتكر أدوات نضالية غير مسبوقة، محولًا المنصات الرقمية إلى ساحات للتحشيد، والحراك الشعبي إلى دبلوماسية ضاغطة، معتمدًا على تنظيم أفقي كسر احتكار الأحزاب التقليدية للقيادة.

ثانيًا: فلسطين والدرس الأعظم في المقاومة الواعية:

على أرض فلسطين، تحولت المقاومة من ردّ فعل إلى مشروع وجود.

لم تكن البندقية الفلسطينية مجرد سلاح، بل رمزًا للعقل العربي المقاوم الذي رفض التسليم لمنطق القوة.

لقد أثبتت فلسطين أن المقاومة المسلحة ليست نقيضًا للسلمية، بل هي الوجه الآخر لنفس الفلسفة: فلسفة الرفض والكرامة.

ففي كل حجرٍ يُرمى، وفي كل شعارٍ يُهتف به، تتجلى إرادة الأمة العربية التي تؤمن بأن الحق لا يموت ما دام وراءه مطالب.

واليوم، تقدم فلسطين نموذجًا جديدًا للمقاومة المتعددة الأبعاد: المسلحة منها والسياسية والدبلوماسية والثقافية. فمن منظمة التحرير الفلسطينية، وكتائب القسام إلى حملات المقاطعة الدولية (BDS) إلى الصمود في وجه التهجير في الشيخ جراح، تتجلى عبقرية المقاومة الفلسطينية في قدرتها على خوض المعركة في كل الجبهات في ذات الوقت.

فالمقاومة الفلسطينية لم تحافظ على الأرض فقط، بل حفظت الهوية العربية ذاتها من التلاشي، وأعادت تعريف معنى (العروبة) كعقيدة للتحرر لا كهوية فولكلورية. ولهذا ظلت فلسطين هي الضمير القومي الذي يذكّر الأمة العربية بذاتها، كلما حاولت الغفلة أن تسلبها الذاكرة.

ثالثًا: الأحواز… (الجرح الذي لم يُنسَ):

تمثل الأحواز نموذجًا فريدًا للمقاومة الهادئة لكن المستمرة. فبين عامي 2005 و2023، شهدت عشرات الاحتجاجات الشعبية ضد سياسات التمييز والتهميش، كان أبرزها انتفاضة 2018 التي رفع فيها الأحوازيون العلم العربي مطالبين بحقوقهم الثقافية والسياسية، في مشهد أعاد إلى الأذهان صمود الأمة العربية في وجه محاولات طمس الهوية.

في الأحواز، تتجسد واحدة من أكثر صور الاستعمار الزمني قسوة، والتي تتمثل في محاولة طمس اللغة العربية، وتبديل الهوية، ومحو التاريخ.

لكن رغم كل ذلك، بقي الإنسان الأحوازي العربي حاملًا لشعلة العروبة، يقاوم القمع الثقافي والسياسي، متمسكًا بذاكرة أجداده. إن مقاومة الأحواز ليست فقط من أجل الأرض، بل من أجل الحق في أن يكون الإنسان العربي سيد لغته وثقافته وذاكرته.

إنها معركة ضد النسيان وضد (الاحتلال الرمزي)، حيث السلاح ليس فقط بندقية، بل الكلمة والقصيدة والنشيد والوعي. وبهذا المعنى، تتحول الأحواز إلى معملٍ روحيٍّ لإعادة اكتشاف معنى الكرامة العربية.

رابعًا: الدروس الكبرى في الوعي القومي والتحرر:

ولكيلا تبقى هذه الدروس حبرًا على ورق، يجب أن نترجمها إلى مشاريع عملية. فالتجارب الثلاث لا تقدم لنا نظريات مجردة، بل تمنحنا أدوات قابلة للتطبيق في معاركنا الراهنة من أجل التحرر والنهضة.

من هذه التجارب الثلاث – السودان، فلسطين، الأحواز – تتبلور مجموعة من الدروس التاريخية التي تشكل ميثاقًا للنهضة القومية الحديثة:

1. التحرر يبدأ من الوعي: لا يمكن لأي ثورة أن تنتصر ما لم تبدأ بتحرير العقول قبل تحرير الأرض. فالمعركة الحقيقية ليست ضد العدو فقط، بل ضد الجهل والتبعية والتفكك.

2. الوحدة شرط النهوض: كما أثبتت التجارب السودانية والفلسطينية، لا يمكن للمقاومة أن تنجح إلا حين تتحول إلى مشروع جماعي منظم تتكامل فيه النقابات والأحزاب والطبقات والجهات.

3. السلمية والعنف وجهان لفلسفة واحدة: كلاهما وسيلتان لخدمة غاية واحدة هي الكرامة والحرية. ففي السودان كان الرفض السلمي سلاحًا، وفي فلسطين كانت البندقية كلمة أخرى للحرية.

4. الذاكرة سلاح استراتيجي: الشعوب تموت حين تنسى، وتنتصر حين تتذكر. والذاكرة القومية – من الخرطوم إلى غزة إلى الأحواز – هي التي تحافظ على نبض الأمة العربية.

5. المرأة والشباب: روافد التحرر: لأنهما الحاملان الدائمان لروح التغيير. فقد كانت المرأة في السودان حارسةً للهوية، والشباب في فلسطين وقودًا للكرامة، وأبناء الأحواز شهودًا على أن الوعي لا يشيخ.

خامسًا: نحو مشروع قومي جديد للتحرر والنهضة:

إن المشروع القومي المنشود يجب أن ينبثق من واقعنا المعاصر ويتعامل مع تحديات العصر. نحن بحاجة إلى:

1. منصة رقمية عربية لتوثيق ونقل الخبرات النضالية.

2. شبكة اقتصادية عربية تمويلية تدعم مشاريع التنمية في مناطق الصراع.

3. مؤسسات أكاديمية عربية متخصصة في دراسات التحرر والنهضة.

4. برامج تبادل شبابي بين بؤر المقاومة المختلفة.

لقد آن الأوان أن تتحول هذه الدروس إلى مشروع نهضوي عربي متكامل، يربط بين المقاومة والتحرر، وبين الثقافة والسياسة، وبين الوعي والاقتصاد.

إن المطلوب اليوم ليس استنساخ الثورات، بل توحيد رسالتها في جبهة فكرية وحضارية جديدة، تجعل من كل قطر عربي رافدًا في نهر النهضة الشاملة.

إن الوعي القومي المعاصر لا يُبنى على الشعارات، بل على الربط العضوي بين الحرية والعدالة والتنمية والسيادة.

فالثورة الحقيقية ليست التي تُسقط نظامًا، بل التي تُقيم نظامًا جديدًا للعقل والضمير العربي.

الخاتمة:

ما بين أكتوبر وفلسطين والأحواز، يتضح أن جماهير أمتنا العربية لم تفقد القدرة على المقاومة، بل فقدت فقط الثقة في أنفسها.

لكن الشعب الذي أنجب هذه الانتفاضات لا يمكن أن يموت، لأنه يحمل في جيناته سرّ النهوض المستمر.

لقد آن للوعي القومي أن يُعيد اكتشاف نفسه من جديد، لا في الماضي، بل في المستقبل الذي نصنعه بإرادتنا.

إن الانتفاضات السودانية والفلسطينية والأحوازية ليست أحداثًا متفرقة، بل فصول من كتاب النهضة العربية الكبرى، كتابٍ لم يُغلق بعد، لأن الأمة العربية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد.

إن تحويل هذه الرؤية إلى واقع يتطلب منا الانتقال من خطاب الحنين إلى الماضي، إلى خطاب البناء للمستقبل.

مستقبل تكون فيه العروبة هوية تحرر لا هوية انغلاق، ومشروع بناء لا شعارًا فقط.

فالوعي الذي ننشده هو ذلك الذي يحوّل الطاقة الثورية إلى طاقة إبداعية، والغضب من الواقع إلى تصميم على تغييره.

(فحين تتذكر الأمة العربية حقيقتها، تبدأ نهضتها). والمستقبل للشعب العربي … ما دام فيهم من يقول (لا).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.