✍️ أمجد السيد
منذ فجر الاستقلال، ظلَّ الشعب السوداني يخوض معركة طويلة، متجددة، بين إرادته الحرة في إقامة دولة مدنية ديمقراطية، وبين نزعة بعض قادة الجيش في احتكار السلطة وتغليب منطق القوة على منطق الإرادة الشعبية.
وربما كانت ثورة 21 أكتوبر 1964، أول إعلان صريح لانكسار جدار الخوف، وقيام أول جبهة وطنية موحدة تواجه الحكم العسكري باسم الشعب وبسلاح السلمية، لتؤكد أن إرادة الجماهير أقوى من الرصاص، وأن الدبابات قد تُسقط حكومة، لكنها لا تستطيع أن تُسكت شعبًا.
منذ ذلك اليوم، صار أكتوبر أكثر من تاريخ؛ صار أسلوب حياة ونضال متجدد. فكلما عادت الدكتاتورية بثوب جديد، بعثت أكتوبر روحها في الشوارع والميادين، لتعيد التذكير بأن الديمقراطية ليست منحة من العسكر، بل حق ينتزع بالتضحيات.
لكن المؤسف أن الدروس لم تُستوعب بعد.
فبعد انتفاضة أبريل 1985 التي كررت دروس أكتوبر، ثم ثورة ديسمبر المجيدة 2018، ظل الجيش ـ أو بالأصح، مراكز النفوذ داخله ـ يصر على البقاء في المشهد السياسي، متذرعًا تارةً بحماية الوطن، وتارةً أخرى بحماية الدين أو الأمن، بينما الهدف الحقيقي هو حماية امتيازات نخبة حكمت بالسلاح وتربحت من السلطة.
لقد أثبتت التجارب المتكررة أن كل انقلاب عسكري يبدأ بشعارات وطنية وينتهي بفساد واستبداد ودماء.
فمن عبود إلى النميري، ومن البشير إلى البرهان، تكرر المشهد ذاته
شعب يثور من أجل الحرية، وجيش ينقض على الثورة باسم “المنقذ”، ثم يعود الشعب ليطيح به في دورة لا تنتهي.
غير أن ما يجري اليوم في السودان من حرب عبثية بين جنرالين، يمثل أخطر فصول هذا الصراع التاريخي. فالحرب ليست سوى محاولة يائسة من قوى الردة لإعادة إنتاج حكم العسكر، ولإجهاض حلم السودانيين في الدولة المدنية التي حلموا بها منذ أكتوبر.
لكن الشعب وهو الذي خبر الدكتاتورية وذاق مرارتها لن يسلّم رقابه مجددًا.
فهو الذي قال كلمته في الشوارع لا لحكم العسكر لا لحكم المليشيا
هو الذي يدرك أن الطريق إلى السلام والعدالة لا يمر عبر فوهات البنادق، بل عبر صناديق الاقتراع، والدستور، وسيادة القانون.
ستظل أكتوبر بثورتها السلمية العظيمة النور الذي يهتدي به الأحرار في ظلام الحرب والخراب.
فهي التي علمتنا أن الحرية لا تُستعاد إلا بالنضال المدني، وأن بناء الدولة لا يقوم على القوة المسلحة، بل على قوة الوعي والإرادة الشعبية.
إن الشعب السوداني الذي صنع أكتوبر وأبريل وديسمبر، قادر اليوم أيضًا على أن يصنع فجرًا جديدًا يطوي صفحة الانقلابات إلى الأبد، ويكتب دستورًا للحياة، لا للحرب.
وحتى يأتي ذلك اليوم، سيبقى شعار أكتوبر خالدًا في الذاكرة الوطنية فلا وصاية على الشعب ولاسلطة لغير الشعب

Leave a Reply